كم كانت غبطتي كبيرة حين بدأت إجراءات التصحيح التي قامت بها وزارة العمل مشكورة، فالملايين التي دخلت إلى المملكة العربية السعودية منذ سنوات عديدة خلقت حالة غير سوية في السعودية، وتسببت في ظهور تشوهات في بنية المجتمع، وهذا ليس موقفاً سلبياً تجاه الوافدين الذين يريدون العمل في المملكة، فكما أنهم بحاجة لنا فنحن كذلك بحاجة لهم، ولا يمكن أن يستغني بلد مثل السعودية الناهضة تنموياً عن الأيدي العاملة والخبرات المتنوعة في سبيل نجاح مساعيها التنموية، فإن هذا قدر لا يمكن تجاهله ولا إنكاره، وإنما الإشكالية تكمن في حالة "الانفلات" النظامي الذي كان سوق العمل يعانيه وما أفرز بعد ذلك من مشكلات تحتاج لمثل هذا القرار الضخم حتى تتحسن.
إن المشكلات الناتجة عن عدم نظامية كثير من العمالة الوافدة انعكست بشكل مباشر على الاستثمار وسوق العمل، ومن ذلك مضايقة أهل البلد في التكسب والعيش، ولو أخذنا مثالاً على ذلك في قطاع "المقاولات" لوجدنا أن هناك لوبيات عمالية مخالفة تستحوذ على نصيب الأسد من سوق البناء والإنشاء للمساكن، ثم ترحيل مئات الملايين خارج البلاد، وهذا جعل الكثير من مؤسسات وشركات المقاولات تخرج من السوق لأنها لا تستطيع منافسة هؤلاء أو أخذ حصة مقبولة منهم، وهؤلاء يتحالفون على هذه الأعمال بلا عائد يذكر على قطاع الاستثمار، فهم يسكنون بأرخص الأماكن، ويستخدمون أرخص المواد والأدوات، ولا يهتمون باشتراطات السلامة أو تخصصات المهن، بينما نجد صاحب المؤسسة الصغيرة والمتوسطة، وحتى الكبيرة، يصرف مصاريف كثيرة من إيجارات ومكاتب ومصاريف ورواتب وغيرها، ولكنه لا يستطيع الاستحواذ على أي عمل إلا بمشقة بالغة في بلده الذي أغنى الملايين من العالم ثم هو يفلس فيه ويغلق مؤسسته.
هذا مثال واحد فقط، فضلاً عن مجالات استثمارية كثيرة، وخاصة فيما يتعلق بالتوزيع والتجزئة وسوق الخضار ولوبياتها التي لا يستطيع أي سعودي منافستهم أو التعامل معهم، لأنهم يضايقونه حتى يفر من السوق، إضافة إلى عمليات التستر التي يكون السعودي مخيالاً ميتاً في الواجهة فقط، بينما يأتي الوافد – وقد يكون مخالفاً – لإدارة المحل أو المعرض أو المؤسسة ثم يعطي صاحب السجل فتاتاً من دخله ويستأثر بالباقي، وهذا ليس عيباً في الوافد فقط، بل هو استخذاء من صاحب العمل الذي يرضى أن يتجر هذا العامل باسمه. وكم سمعنا من ورطات كبيرة وقعت لبعض السعوديين حين حملوهم ديوناً ضخمة ثم فروا إلى بلادهم بعد أن شبعوا وربوا الملايين من الريالات.
كيف يمكن أن نرتقي في سوقنا الاستثماري وملايين من العمالة السائبة في الشوارع، الذين لا يملكون مؤهلات العمل والإنجاز، فتكون مخرجاتهم العملية ضعيفة وتنعكس على البنية التحية للبلد، وقد أدى هذا "التسيب" في السوق إلى تخبيب العمالة على كفلائها حين يتسربون من بين أيديهم ليذهبوا للعمل لأصحاب المشروعات الكبرى الذين لا يفكرون إلا بمصالحهم الخاصة، إضافة إلى المتجرين بهؤلاء العمالة من جباة الأتاوات في آخر الشهر، ولا يدرون بأي مجال يعمل من تحت كفالتهم، ولا كيف تحصلوا على الأموال، فالمهم عند هؤلاء كم يدخل علي في آخر الشهر حتى لو كان ذلك على حساب البلد وأمنه واستقراره، وهذا الوضع جرأ العاملين على عدم احترام الكفالة والصلة مع الكفيل، وسهل عملية الهروب والأمان في أي عمل، ولقد رأينا الكثير من أصحاب المشروعات يبحثون عن عمالتهم بعد أن تعطلت مشروعاتهم وركبتهم الخسائر في المشروعات الكبيرة المحاطة بسياجات تؤوي المخالفين والهاربين بلا أي مسؤولية نظامية أو أخلاقية.
إن مشروع "تصحيح أوضاع العمالة" من المشروعات الوطنية الكبرى، ولا يصح التأخر فيها، بل لابد أن تكون استراتيجية، بحيث أن نضمن عدم عودة التسيب والفوضى للسوق مرة أخرى، فإن هذا من حماية مصالح الأجيال القادمة، وتوطين الوظائف لمستحقيها من أبناء وطننا، وحماية أمن البلد من فوضى هؤلاء الذين فتحوا على البلد شروراً كبيرة من عصابات السرقات والمخدرات وتصنيع الخمور وشبكات الدعارة وغيرها، والتي جعلوها مجالات للتكسب حين لم يجدوا فرصة طبيعية ونظامية للعمل، فلا بد من الحزم والعزم والتوكل على الله في هذا، فهو قرار لا شك أنه في صالح الجميع وستكون انعكاساته مفيدة في الحاضر والمستقبل، وخاصة فيما يتعلق بخلق فرص العمل وتحفيز المؤسسات لتوطين الوظائف لأبناء البلد، وتشجيعهم كذلك على ولوج عالم الاستثمار والاتجار، فهم أولى بهذا من غيرهم.
إلا أن أي مشروع للتغيير والإصلاح لابد أن يراعي شرطاً مهماً وهو أن القضاء على أي مشكلة من المشكلات لابد أن يراعى فيه ألا يخلق مشكلات أخرى، فنرقع من جانب ونفتق من جانب آخر، وبرأيي أن المدة التي وضعت للتصحيح ليست كافية، والآليات التي وضعت ليس فيها إنصاف لمن يريد أن يستفيد من وضع التغيير، وخاصة من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وإلى الآن لم يتم إصلاح أوضاع إلا أربعمئة وخمسين ألفاً تقريباً، مع مضي ثلثي مدة الإصلاح تقريباً، ولا يمكن إصلاح أوضاع الملايين من المتخلفين بالمدة الباقية، ولا بأس بتمديد المهلة حتى لا نخلق في المدة الضيقة مشكلات أخرى، فحتى ترحيل الملايين سيكلف الدولة عدة مليارات، إضافة إلى أن الشروط إلى الآن هي محل جدل وخلاف بين قطاع الأعمال ووزارة العمل.
كما أن على وزارة العمل أن تسهل عمليات الاستقدام بعد مهلة التصحيح، حتى لا يكون هناك ثغرة في الحاجات للأيدي العاملة مما سيخلق تعثرات كبيرة في المشروعات التي بنى أصحابها استراتيجياتهم على الاستفادة من هذه العمالة السائبة، فأخطاؤهم في هذا ليس مبرراً إلى خلق مشكلات أخرى تنعكس على هذه المشروعات العامة والخاصة، ثم ينتج عنها خسائر ومحاكمات وقضايا ترهق القضاء.
مع دعواتنا لكل القطاعات المعنية بالتصحيح، مثل وزارة العمل والجوازات وغيرهما، بالتوفيق في هذا الجهد والجهاد الوطني.