شهد الأسبوع الماضي ضجة ضخمة عالميا بسبب فضيحة برنامج "بريزم" التجسسي. المشكلة هنا ليست في مخالفة دولة كبرى مثل أميركا لمبادئها الأساسية التي افتخرت بها عبر السنين، فهذا أمر انتهت الصدمة منه بعد 11 سبتمبر، ولكن في رأيي لأن الإنسانية استيقظت فجأة لتفاجأ بتحد من أصعب التحديات التي تواجهها في تاريخنا الحديث، بعد أن صارت التكنولوجيا جزءا من حياتنا، وصار العيش يبدو من المستحيل بدون شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية وتطبيقات الموبايل. بعد هذا الاعتماد الهائل على التكنولوجيا تكتشف البشرية أن هذا يعني بلا مبالغة أن كل شيء تفعله يمكن رصده بالتفاصيل، وتحليله، ثم عقابك عليه إن لم يعجب ذلك "الأخ الأكبر".

يمكن بسهولة الوصول لنتيجة هنا أنه تقريبا لا يوجد مفر من هذا المأزق: لا يمكننا التوقف عن استخدام التكنولوجيا، ولا يوجد أي إطار قانوني أو فكري يمنع حكومة مثل الحكومة الأميركية من الاطلاع على كل أسرار حياتنا. الإنترنت تحول فجأة إلى مصيدة ضخمة، وقعت فيها الإنسانية لصالح الدولة التي اخترعته ودعمته استثماريا وتقنيا وحولته إلى المغناطيس الذي نلتصق جميعا به شئنا أم أبينا.

ما لا يعرفه كثير من الناس بعد، وما لا يتخيلونه هو كيف تعمل هذه الأنظمة التي تجمع معلوماتنا وتحللها. أتيح لي مرة أن اطلع على مشروع عملاق في بريطانيا لبناء واحد من هذه الأنظمة، وبقيت مدهوشا لفترة بعدها. هذه الأنظمة لا تجمع المعلومات التي تأتي من كافة وسائل الاتصالات في قاعدة معلومات عملاقة موحدة فحسب، بل هي أيضا تستطيع أن تربطها بذكاء بالشخص مصدر كل هذه الاتصالات، سواء كانت اتصالات هاتفية أو بريدا إلكترونيا أو حتى مجرد التجول من موقع إلى موقع على الإنترنت أو مشاهدة فيديوهات على يوتيوب، ثم تستطيع خلال دقائق أن تبني بروفايل كامل عن الشخص، من خلال تقنيات ربما لا يعرف أكثر الناس بوجودها بعد. أضف إلى هذا كله، قدرة تلك الأنظمة على تحويل الصوت إلى كلمات ثم البحث الذكي (بما يتجاوز إمكانات البحث التي نراها في المواقع المجانية مثل جوجل) بكافة اللغات بما فيها اللغة العربية (بكل لهجاتها) لتصل إلى تقرير كامل بكل المعلومات خلال دقائق فقط.

الفضيحة التي حصلت في أميركا بناء على تسريب معين لمعلومات برنامج "بريزم" الاستخباراتي لم تتضح تماما بعد، فوكالة الأمن القومي National Security Agency أعلنت نفيها لجمع المعلومات بشكل عام من سرفرات الشركات الكبرى جوجل وياهو وفيسبوك وميكروسوفت وأبل، وأنها ملتزمة فقط بطلب المعلومات للأشخاص الذين تسمح المحاكم بطلب معلوماتهم. بالنسبة للإعلاميين الذين يكرهون نظرية المؤامرة، هذا يشرح لماذا نفت الشركات الكبرى كلها بصوت واحد معرفتها ببرنامج "بريزم"، فهم يوفرون معلومات عن الأشخاص الذين تسمح المحاكم الأميركية بتوفير معلوماتهم للاستخبارات الأميركية.. لكن هنا أذكر عدة ملاحظات:

1- الذين يعرفون تاريخ المحاكم الأميركية مع الاستخبارات، يعرفون أنه من النادر جدا أن يرفض لها أي طلب، وخاصة إذا كان يتعلق بأشخاص أجانب وببرامج مكافحة الإرهاب، وأسباب ذلك عديدة ليس هذا محل الحديث عنها، ولكنه واقع أكيد.

2- عندما تطلب الاستخبارات إذن القاضي للحصول على معلومات عن شخص معين، فهي قد تطلب قائمة طويلة من عناوين البريد الإلكتروني والحسابات المشتبه بعلاقتها بهذا الشخص، وهذا يسمح عادة لأجهزة الاستخبارات بتمرير أي حسابات ترغب في الاطلاع عليها.

3- تلتزم أجهزة الاستخبارات الأميركية بقيود قاسية لمراقبة المعلومات داخل أميركا بحكم القوانين التي تحمي المواطن الأميركي من الرقابة، ولكن الاستخبارات الأميركية تستطيع ببساطة أن تفعل ما تشاء عندما تكون خارج أميركا وتتعامل مع سرفرات خارجها أو بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات الأخرى.

4- وكالة الأمن القومي لديها مشروع آخر مشابه ومثير للجدل، وهو مشروع "إيشيلون" الذي تتعاون فيه مع بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا في مراقبة الاتصالات في العالم. برنامج "بريزم" يبدو وكأنه امتداد طبيعي لبرنامج إيشيلون (ECHELON).. والكتاب الذي أصدره باتريك بول عن البرنامج يؤكد أن البرنامج يشمل مراقبة الإنترنت.

5- رفض تويتر للتعاون مع برنامج "بريزم"، وهو الذي أكدته تويتر مرة أخرى الأسبوع الماضي، يتناقض مع تصريح وكالة الأمن القومي، لأن أوامر المحاكم لا يمكن لأي شركة رفضها، وهذا يعني أن الشركات تعطي وكالة الأمن القومي أكثر مما تسمح به المحاكم.

خلال الأسابيع القادمة، سنسمع الكثير عن البرنامج وستتجلى لنا الحقائق، وخاصة مع إصرار شبكة الهاكرز "أنينموس" التي سربت الوثيقة على كشف المزيد من المعلومات، وإصرار مصادر الجارديان وواشنطن بوست على الأمر نفسه، وقد ينتج عن هذه الفضيحة تحرك ما في الكونجرس الأميركي لإيجاد تشريعات أكثر صرامة، ولكنها ستكون لحماية المواطن الأميركي فقط حسب الدستور.

لقد انتهى عهد التجول على شبكة الإنترنت كما كان رعاة البقر يتجولون في صحراء أميركا بحرية مطلقة، وبلا قيود، انتهى هذا العهد، وصار على الجميع أن يعرفوا أن هناك من يقرأ أفكارهم ويعرف أسرارهم، بشكل قد يتجاوز ما تعرفه الزوجة عن زوجها والولد عن أبيه.. آن للإنسانية أن تعرف أنها ما دامت تعتمد على التكنولوجيا فهي تعيش في العراء!