من يصنع الذائقة؟ أهو المتلقي الذي يجلس في بيته أمام التلفاز أو يجوب بسيارته على وقع أثير الإذاعة، أم هي المؤسسة الإعلامية التي تختار المادة وتقولبها وتبثها؟ لنتجاوز هذا السؤال إلى ما هو أبسط، ما الذي يحتاجه المتلقي، هل هو الترفيه الفارغ من أي محتوى ثقافي، أم الثقافة المفرغة من الترفيه؟
المتلقي لا ناقة له ولا جمل، فهو يتقبل أي مادة إعلامية ويتفاعل معها بحسب اهتمامه، لكنه وبنسبة كبيرة يبدي اهتماما فضوليا بالأشياء التي لا تهمه أحيانا، وهذا يعتمد على طريقة عرض المادة، فبإمكان أي قناة أو إذاعة أن تصنع من برنامج عن "علم النانو" مادة إعلامية جاذبة. ويبدو أن من أصبح صانعا للذائقة ليست الإذاعة ولا المتلقي، إنه "البيزنيس".
سنذهب إلى الإذاعة مباشرة، فالتلفزيون انتقل إلى عالم التخصص ووسع الخيارات أمام المتلقي بشكل كبير. الإذاعات السعودية الجديدة كلها تسير بوتيرة واحدة، مع بعض المحاولات الجادة لصناعة مادة إعلامية محترفة ومفيدة هنا وهناك، وهو ما صرح به عضو في مجلس الشورى مؤخرا، حين طالب بمحاسبة وزارة الإعلام لأنها رخصت لإذاعات تقدم مواد هابطة وسطحية تسيء للثقافة ولا تعكس هوية البلد، ويبدو أن الحل هنا هو دعم الوزارة للإذاعات ماديا حتى لا تبقى رهينة المعلن.
في هذه الإذاعات، تأتي الأغنية أولا، وما يأتي من برامج يتحدث فيها المذيع، لا تعدو كونها ملء فراغ حتى يأتي موعد الأغنية القادمة. واذا انتهت الأغنية وحضر المذيع، ماذا سيقدم؟ غالبا سيكون تركيزه على استقطاب اهتمام المستمع وهذا أمر جيد، لكنه يهرب تلقائيا من الهدف المهني – تقديم مادة مفيدة - إلى الهدف المادي الذي يكمن في دعوته للمشاركة في حوار سطحي أو مسابقة تجارية أو إرسال رسالة sms للفوز بجائزة الشركة المعلنة أو الراعية، في خلط واضح بين الإعلام والإعلان.
الإذاعة في دول العالم وسيلة تعليم وتثقيف مجتمعي خطيرة، فهي تخاطب حاسة السمع التي من خلالها يتلقى الإنسان المعلومة ويتعلم اللغة في طفولته ويخزنها في الذاكرة، فالبرامج التثقيفية التي تمهد للمتلقي يومه وتفتح له آفاق التفكير وتمنحه النضج نادرة الوجود في أثيرنا، والبرامج الحوارية التي تعلم الفرد فن التحدث والتحاور غائبة تماما، والذائقة أصبحت موسيقى وامتلأت بالغث من الكلام العامي اليومي الممهور بخفة دم مذيع أو غنج مذيعة.