جوهر صراع الدول، خاصة الكبرى منها، مع بعضها البعض، هو المغنم الاقتصادي والمكسب الإستراتيجي، الذي بدوره يسهل للوصول للمغنم الاقتصادي؛ برغم عدم بوحها بذلك، ومحاولة تغليف أطماعها ومكاسبها المادية بمثل معنوية إنسانية عليا، نابعة من القيم الدينية أو مبادئ حقوق الإنسان. إذاً فلماذا تحضر أحياناً كثيرة المثل المعنوية الإنسانية العليا، عند نشوب أي صراع بين دولتين كبريين أو بين محاور دول كبرى وصغرى؟ الجواب عن هذا السؤال، ليس معقدا، ولا يحتاج للمراوغة، فالإنسان ـ أي إنسان عاقل ـ لا يرمي نفسه في أتون معركة، هي ليست معركته بل معركة غيره. فلو تم إعلان دولة ما سبب حربها الحقيقي، مثل المغنم الاقتصادي، أو المكسب الإستراتيجي؛ فلن يتحمس معظم شعبها في بذل أرواحهم رخيصة في سبيل مكاسب ومغانم النخب التي تدير شؤون دولتهم، والتي لا تشارك في الحرب بسوى حث وتحريض الآخرين لخوض معركتهم نيابة عنهم.

ولذلك فأسهل سبيل في دفع الناس لخوض معارك مكاسب النخب في الدول الكبرى وحتى الصغرى منها، هو تغليف أهداف حروبهم بأقرب مثل تحرك ضمير شعوبهم من دون وعي منها. وهكذا تلقي بهم في أتون حربها نيابة عنهم، ولو خسروا أعز ما يملكون وهي أرواحهم، وترميل نسائهم وتيتيم أطفالهم، من أجل مكاسب النخب المادية والمعنوية.

والمحاور في المشرق العربي، بأقطابها المحلية والإقليمية والدولية؛ تدير صراعها مع بعض، بنفس الطريقة التي يدار بها الصراع بين المحاور، منذ اختراع الدولة وعليه التحالفات بين الدول، حتى زمننا الحاضر، وبلا ريب سيستمر في مستقبلنا السياسي القادم. في المقالين السابقين عن صراع المحاور في المشرق العربي تناولت البعد الجيوتاريخي، لجوهر الصراع، وسأتناول في هذا المقال، البعد الطائفي لكنه الصراع.

الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، يظهر في المشرق العربي، كلما غابت عنه قوة محلية تملؤه إستراتيجياً وتحافظ على ٍأمنه وتذود عن مصالحه. أي في ظل غياب قوة محلية أو تحالف محلي، في الحد الأدنى، يملأ هذا الفراغ الإستراتيجي. يحدث في المنطقة ما يسمى بالفراغ الإستراتيجي؛ فتتصارع القوى الإقليمية والدولية لملء هذا الفراغ، ليس فقط للحفاظ على مصالحها المادية في المنطقة؛ ولكن أيضاً لحرمان خصومها، من فعل الشيء نفسه. حينها ينشب الصراع بين هذه القوى الإقليمية والدولية على منطقة المشرق العربي، وعندها تجد القوى المحلية نفسها مضطرة للتحالف مع هذا المحور أو ذاك، ليس حبا في هذا أو كرها في ذاك، بقدر ما تجد مصالحها متجهة مع هذا أو ذاك؛ حينها تنخلق محاور تتصارع مع بعضها، كل محور يتكون من تحالف قوى محلية وقوى إقليمية وقوى دولية يجمع فيما بين كل منها مصالح مشتركة.

منذ فجر التاريخ، وبسبب وقوع منطقة المشرق العربي، في وسط العالم، حيث يفصل بين الشرق والغرب ويمثل عقدة مواصلاته وتواصلاته؛ أصبح من يسيطر عليه يتحكم في حركة التجارة بين الشرق والغرب. ولذلك نشب الصراع حوله بين قوى تمثل الشرق وأخرى تمثل الغرب. وفي القديم مثلت هذه المحاور، المحور الفارسي والمحور الرومي، المحور الفارسي مثل مصالح دول الشرق، والمحور الرومي مثل مصالح الغرب، وكل محور ضم داخله دولا محلية، مصالحها تميل مع هذا المحور أو ذاك. بعد اكتشاف الطاقة وبكميات هائلة في المشرق العربي، أصبح الصراع عليه بين قوى الشرق وقوى الغرب أشرس من ذي قبل. وعليه تشكلت المحاور الحديثة فيه.

الآن عاد الصراع على المشرق العربي، بين المحور الفارسي، والذي تنضوي تحته، قوى الشرق ورأس حربته إيران، والمحور الرومي، والذي تنضوي تحته قوى الغرب، ورأس حربته تركيا.

وما يهمنا هنا، هو إيضاح البعد الطائفي لهذا الصراع، بين محوري الفرس والروم في منطقة المشرق العربي. إيران التي تمثل رأس حربة المحور الفارسي، بعد الإسلام أسلمت، وأصبحت جزءا من العقيدة والحضارة الإسلامية لمنطقة المشرق العربي؛ وهذا يعطي الحلف الفارسي، ميزة على الحلف الرومي في صراعهما على المنطقة. ولذلك خطط الحلف الرومي، لحرمان الحلف الفارسي، من ميزة الانتماء العقدي والحضاري للمنطقة، وعليه شرعية التحدث باسمه، ناهيك عن الدفاع عنه؛ وذلك بتحريك البعد الطائفي في المنطقة واللعب على أوتاره بقدر المستطاع؛ حتى يؤتي أكله ويتم إقصاء إيران من ميزتها الدينية والحضارية عليه في المنطقة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تسامح وتغاضى المحور الرومي، عن وصول حكومة إسلامية لتترأس رأس حربتها – تركيا العلمانية – والتي فصلت نفسها على يد مصطفى أتاتورك من الانخراط في النسيج العقدي والحضاري للمنطقة، بل ومحاولة التصادم معه، بمحاولة ربطها حضارياً مع الغرب؛ وهنا لا يكون فقط تم استبعاد رأس حربة الحلف الفارسي، من المنطقة، بل وأيضاً إقحام رأس حربة الحلف الرومي فيها؛ كون تركيا، لا تنتمي فقط دينياً للمنطقة ولكن حتى مذهبياً لغالبية سكان المنطقة. إذاً فالغرب يريد من المشرق العربي، بأن يكون ضمنه إستراتيجياً ومادياً، ولكن لا يريده بأن يكون ضمنه تقدماً وحضارياً، كما فعل ويفعل مع تركيا، رأس حربته في المنطقة. فارس جزء من المنطقة إستراتيجياً وحضارياً؛ ولذلك فالغرب سعى ويسعى لتحجيم انتمائها الثقافي والتاريخي للمنطقة، بالطرح المذهبي، وتعميقه.

فارس بنفس الوقت، تستنهض المعطيات النضالية في ثقافة المنطقة، في صراعها ضد الغرب؛ حيث إن تاريخ العلاقات بين الغرب والمشرق العربي، المتوسط (الحروب الصليبية) والقريب (الاستعمار وزرع ورعاية إسرائيل في المنطقة)، هو تاريخ ملوث أخلاقياً، وملطخ بالدماء. ولذلك أصبح التركيز على القيمة النضالية في المنطقة، لتزيد فجوة الغرب في المنطقة، وبنفس الوقت، لا تقرب الحلف الفارسي من المنطقة، بل وتجعله قائداً لدفة النضال، ضد الغرب فيها. مما سبب أزمة ليس فقط للغرب نفسه في علاقته بالمشرق العربي، ولكن أيضاً سبب أزمة وحرجاً لحلفائه في المنطقة.

ولذلك كان لا بد للمحور الرومي، من إيجاد تلويث أخلاقي، لعلاقة المحور الفارسي بالمشرق العربي؛ ولذلك تم استحضار الصراع الفارسي العربي، ما قبل الإسلام وتضخيمه، والنفخ في البعبع الصفوي، ما بعد الإسلام؛ وتكراره والتركيز عليه، ليتحول لحقيقة غير قابلة للنقاش. وهكذا تحول رأس، الخطاب المقاوم – إيران - أكثر خطورة من التلوث الأخلاقي الغربي ضد المنطقة. وفوق كل ذلك، ليتحول المحور الغربي كمنقذ للمنطقة من مكايد ومؤامرات الحلف المقابل. ليتحول المحور المقاوم، لمحور يجب مقاومته، ويتحول المحور، الذي تتوجب مقاومته، عند الكثير من العرب، إلى محور إنقاذ للمنطقة.

وعليه، فالطائفية في المنطقة ليست مرضا بحد ذاتها، وإنما هي عرض لمرض الفراغ الاستراتيجي والفلتان الأمني وغياب الوعي التاريخي للمنطقة.