من منا يطيق ساعة الوداع؟ من منا لا يعتصره الألم في ساحات المطارات الدولية والقطارات المحلية وهو يلوح بكلتا يديه لفراق حبيب؟ فالوداع هو لحظات مجسدة للفراق، لا يضاهيها انفعالاً إلا ساعات اللقاء؛ فبين اللقاء والفراق لحظات، كما الحياة التي هي تلك، ولكن ما يضمد الجراح وصعوبة اللحظات المعتصرة للوجدان لا محالة هو الأمل في اللقاء.. فالأمل هو الباعث على الحياة. فكما يقال: لولا الأمل لما أرضعت أم وليدها! فماذا لو سافر واحد منا دون أمل في اللقاء؟ حيث يذهب بعيدا وراء الأفق.. وراء المحيطات، أو وراء السحب.. لا يعرف إلى أين تتجه قبلته. إنما في أغلب الأحيان يعرف أنه لن يعود.. فالمركب البعيد يحمل الحبيب، وقد يعود وقد لا يعود.. فيمخر عباب الشوق في غياهب الأفق. فمن يهنئ اليتيم بثوبه الجديد في ليلة يقال إنها كانت من ليالي العيد؟
رحلات مكوكية أسرع من لمح البصر، ولكنها في اتجاه واحد. يسافر الواحد منا ونحن نتراص في طوابير الانتظار.. طوابير ليس لها مثيل فيما خلق الله على وجه الأرض، لأنها ليست كطوابير المرور أو استلام الأوراق على نوافذ المؤسسات التي تأكل لحمنا وأرواحنا بحسب آلة الزمن. إنها طوابير بطول الدنيا وعرضها؛ فلا تستطيع الأقمار الصناعية التقاطها أو تصويرها، لأنها بطبيعة الأمر من المسلمات. قد جرت العادة أننا حينما نقف في طابور الانتظار كل واحد منا يحمل أوراقه في يده.. مرة يقلبها، ومرة يمد يده أكثر طولا من الذي قبله لكي تكون بارزة للمنوط باستلامها. والفرحة غامرة عندما يسمع صوت المنادي يتلفظ باسمه! سعادة الخلاص من هذا العناء الطويل. وكذلك هذا الطابور الممتد في كل الاتجاهات.. والذي أصبح كالصفحة المكتوبة على الحاسوب حينما تكبر خطوطها أكثر مما يجب فلا نستطيع رؤيتها، لأنها تحولت إلى معنى فقط! فلا شيء يُرى! فهل أدركنا أننا نحمل بين أيدينا صفحات لا نقلبها ولا نرتبها، ونمد أيدينا لتكون أكثر طولا ممن نتلوه، فنسلمها في امتنان وتؤدة وهدوء ونحن لا نعرف خباياها؟! نجمع أوراقا كل يوم تنوء بها كواهلنا، وللأسف لا نراجعها كل مساء!
وها هو أحدنا وقف كثيرا في طابور الانتظار.. يوم طويل ومرهق، امتد لما يقرب من سبعين عاما ونحن نلوح بأيدينا بكل ألم الفراق! ولكن الغريب أننا أثناء الوقوف في ساحات الانتظار، وفي هذا الصف بطول الأرض وعرضها، لا نقف كما في صفوف الجنود، بالرغم من أننا جنود في هذا المنوال، ولكن بشكل آخر، وبرداء آخر، وبطريقة مختلفة.. نقف فيه بشكل عجيب وغريب، فكأننا في هذا اليوم الطويل أشبه بليلة "المولد" لدى المولوية والصوفية وأصحاب الطرق.. نقف نلهو ونلعب ونغني ونرقص ونأكل ونمارس كل صنوف الود والمتعة، فلا ينتبه أحدنا إلا على صوت المنادي، فلا فرار حينئذ من تسليم الأوراق؛ فهنالك من يحصل على امتياز وآخر جيد جداً، وبعضنا مقبول أو يكاد! غير ذاك الذي يكون لديه ملحق.. وهناك من يرسب في يوم الشهادات الكونية العظمى، التي تفوق الدكتوراه والماجستير والأستاذية، وبعضها لا تصل للابتدائية، وكل صنوف شهادات اللعب اليومي في يوم طويل لا يعرف قدره إلا الله.
وفي الأحداث، أحبابي، صعوبات رأيناها وعشناها وخالجنا الخوف والإشفاق مما يعتري الأهلين من خطر ومن هلكة. فحين يؤوب أهلونا إلى شيء من الهدأة، يظل أحدهم يخاف ثعبانا على عرقوبه المشقوق.. يحس فحيحه الهادر، ويمسى الليل والظلمات والوطواط والجرذان أخطارا تداهمنا وترعبنا، وشهوة فوزنا بالصيد تنسينا.. فلا ننكص ولا نخشى تقافزنا.. تراقصنا.. ولا نلوي على خطر ولا حذر.. ولا نخشى هوام الأرض تؤذينا!
"فصيد القيظ قد هلَّ، على الوديان أطيافا، وألوانا، نزمزمه بأيدينا.. وهمس الريح في نشوٍ يدندن في مسامعنا أفانينا.. وفي عمق الدجى اختلطت مشاعر من أسى كمد، وحزن لا يغض الطرف، أن هناك محموما تركناه.. تقلب بين أيدينا!"
فهذا منتش جذلان قد غصت خزانته بصيد جاء يجمعه، ويرفده على جوع تناسي في غمرته أخا في الحي مفقودا ومحروما.. تناسى أن شمس الغد لن تأتي وتشرق في محياه.. ونفقد واحدا فينا!
ثلاث صورة اجتاحت نفسي في أثناء كتابة هذا المقال. أولها مشهد حركي من الفيلم السينمائي الأميركي (wall the) أو الحائط، وهو يتضمن عددا لا نهائيا من البشر يتحركون بشكل آلي صوب مفرمة حديدية دون وعي أو إدراك للمصير المحتوم، كل منهم لا يساوي إلا رقماً. الصورة الثانية موقف الراكب في مسرحية "مسافر ليل" للكاتب صلاح عبدالصبور، حين يأكل "الكمساري" أو المحصل تذكرته، أو هويته، أو إثبات ماهيته، في ركوب القطار ليجد نفسه مشدوها إزاء المحصل أو عامل التذاكر وهو يأكل تذكرته، إذ فقد معنى وجوده المتعين!. والصورة الثالثة من قصيدة عجبي للشاعر صلاح جاهين حين يقول:
الدنيا أوضة كبيرة للانتظار
فيها ابن آدم زيه زي الحمار
الهم واحد والملل مشترك
وما فيش حمار حاول في يوم الانتحار
وعجبي..
وبطبيعة لنا تحفظ على البيت الثاني، لأن الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم. ثم يعود جاهين ويقول:
مجبر عليك يا صبح.. مغصوب ياليل
لا دخلتها برجليه ولا كان لي ميل
شايليني شيل جيت أنا للحياة
وبكره أخرج مهنا شايلني شيل
وعجبي.
وهذه الصور الثلاث تلخص أزمة الإنسان في عالمنا المعاصر، حيث يفقد الإنسان هويته، ويفقد قدرته على الفعل ويتحول إلى آلة أو إلى شيء، أو يستشعر الضآلة، بينما هو أفضل خلق الله.. فهل نستشعر قوتنا وعظمتنا، ونمتلئ بدواخلنا، بذواتنا وهويتنا؟ وهل نقرأ الأوراق ونراجعها حينما يأتي المساء، تحسبا للنداء المحتوم؟ فكل يوم يسافر واحد منا!