منذ أكثر من نصف قرن، والعالم العربي والغربي يحاول إحلال السلام في هذا الشرق الأوسط التعيس دون جدوى.
فما السبب في ذلك، وما عوائق السلام في هذه المنطقة من العالم، وهو السلام الذي تنعم به شعوب كثيرة الآن في هذا العالم المضطرب؟
لو قرأنا ما يقوله، وما يكتبه معظم المفكرين والمعلقين والمحللين السياسيين في الشرق والغرب عن عوائق السلام في الشرق الأوسط، لوجدنا أن بعض هذه العوائق تتلخص في التالي:
1- "الخوف" من السلام من قبل العرب والإسرائيليين على السواء. فالإسرائيليون يخافون من السلام، لأنه يكذّب أسطورتهم القائلة من أن الفلسطينيين مجرد "أغيار" محتلين، تمَّ تحرير أرض الميعاد منهم. وأنه لا مكان لدولة بين الأردن وفلسطين. ولأن السلام سوف يذيب إسرائيل في البحر العربي، وسوف يكون السلام سبباً في حرب داخلية بين المتدينين والعَلْمانيين، إضافة إلى تلاشي العطف الدولي، والتعاطف الإعلامي الدولي، مع الدولة العبرية، مع زوال الخطر عنها.
2- يخشى الفلسطينيون السلام، لأنه هو الآخر هزيمة لأسطورتهم القائمة على تحرير فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية على أنقاض إسرائيل.
3- يأس الفلسطينيين من السلام نتيجة لتجارب المفاوضات المؤلمة بينهم وبين الإسرائيليين، وما تخللها من احتقار، ومراوغة، وإملاء شروط قاسية، قد عمّق الهوة بين الفلسطينيين ومطلب السلام. وما يحدث عادة، أن المرء يفر من اليأس إلى حلول وشجاعة اليأس؛ أي احتقار الموت، والعمليات الانتحارية، والتمرد، والانتفاض، حتى ولو كان يعرف أنه مهزوم سلفاً. كما يهرب من اليأس أيضاً إلى التشبث الأعمى بالرموز، إلى درجة طغيان الرمزي على الواقعي، والعاطفي على المصلحة. فعقلانياً لا قيمة للمبدأ عندما يكون قيداً يمنع التكيف مع المستجدات، والفوز بمكاسب عملية على حساب قناعات أيديولوجية.
4- إن أزمة بعض النخب الحاكمة في الشرق الأوسط، تُعبّر عن نفسها في عجزها المتزايد عن السيطرة على الأحداث، أساساً لغياب الشجاعة التي يتحلّى بها القائد السياسي في لحظات اتخاذ القرارات التاريخية، عندما يكون أمام موقفين: إما الفرار من مسؤولياته مجاراة لمزاج جمهوره، وإما مواجهة خطر مواجهة هذا الجمهور بلغة الحقيقة.
فالسياسي لا يكون شجاعاً إلا إذا اقتنع أن تحقيق أهدافه السياسية أهم من مهنته السياسية. وهذا هو البطل السياسي الذي يُعطي لحياته معنىً بتحقيق مشروعه. وهو نادر في الشرق الأوسط، المسكون معظمه بالتهور والجبن السياسيين، لا بالشجاعة السياسية.
5- امتزاج السياسة بالتراث عند العرب، واليهود أيضاً. وكذلك امتزاج العوامل النفسية بالسياسية، وامتزاج المصالح بالأيديولوجيا، وامتزاج الوقائع بالمخاوف، وامتزاج الحقائق بالخيالات.
6- تحكم اللامعقول بالعقول. وتفضيل معظم المجتمعات في العالم العربي، مبدأ اللذة على مبدأ الواقع، وأخذ الثأر على أخذ الحق، وتبني "وقفة العز" نتيجة لانتصار جزئي.
7- وجود قيادات مأزومة في كثير من بلدان العالم العربي، خائفة من السلام، تقودها الأحداث، ولا تقود الأحداث.
8- وجود كثير من "صبيان" السياسة، الذين يلعبون بأعواد الثقاب، قرب براميل البارود. فالقرارات المصيرية في معظم أنحاء العالم العربي، لا تصنعها المؤسسات بل الأفراد، الذين لا يمكن التنبؤ بنزواتهم الشخصية، وشطحاتهم الأيديولوجية.
9- انتخاب قيادة ذات مصداقية والتمسك بالوعود التي تعطيها. فالعالم العربي كان يصنع قرار الرجل الواحد، وليس قرار المؤسسات السياسية، ويتم في معظم الأحيان اتخاذ القرار في لحظات، دونما تحليل للمعطيات، أو أدنى قدرة على توقع مجرى الأحداث، واقتناص الفرص النادرة. فمعظم القيادات في العالم العربي تفضل الارتجال على التخطيط، ورد الفعل على متابعة الأهداف المرسومة بصبر، والتكتيكات المتناقضة على الاستراتيجيات المدروسة، والحلول السهلة على التفكير في الواقع المضاد.
10- وأخيراً، إن القرار السياسي الخارجي في العالم المعاصر، مرصود للتأثير في عالم بالغ التعقيد، وغير سهل التوقع. لذا، يتطلب شروطاً، أولها أن تتقاسم المؤسسات المختصة العمل على صنعه. وهكذا لا يعود ثمة من احتمال لإرادة الفرد اللامبالي بالمعطيات الموضوعية، والضرورات الدبلوماسية، والاستراتيجية. وفي معظم المجتمعات العربية، تتم صناعة القرار من قبل سلطة ذات مزاج متقلب. أما في المجتمعات الراشدة، فالمؤسسات هي التي تصنع القرار في أناة، وهي التي تحدد أهدافه، ووسائل تحقيقه الملائمة.
فالمؤشرات الجدية على أن سلطة ما، تصنع وتتخذ قرارها حسب المواصفات المطلوبة في عصرها، تكمن في تفاديها انفجار الأزمات، والتحكم بها. ذلك أن تفادي الأزمات، والوقاية من عواقبها، وعدم الانجرار في دوامتها، والتحكم بها، هدف صنّاع وأصحاب القرار المعاصر دائماً.
وكلما كان توقع الأحداث متدنياً أو خاطئاً، كانت تكاليف التصحيح غالية. وهو ما يحدث كثيراً، وغالباً عندما تكون صناعة القرار لا تزال في الدرجة الصفر من تطورها.