على مدى التاريخ الحديث لنظام الدولة في الوطن العربي، لم أشعر بأن مفهوم مصطلح الدولة واضح ومستوعب بالشكل الجيد عند الغالبية، الذي يمكننا من فهم ما يرمي إليه ذلك المصطلح، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد دل على ذلك بيات بعض تلك الأنظمة على مدى العقود التي تلت التحرر من الأنظمة الاستعمارية الغربية، التي ربما كان لها دور في وضع لبنات أنظمة الحكم أثناء الفترات الاستعمارية وتاريخها، وقد ظل مفهوم مصطلح الدولة غامضاً وعصياً على الاستيعاب، خاصة على المستوى الاقتصادي والتنموي، الذي ظل يتحرك بمستوى بطيء جداً لا يعكس حجم الثروات التي تتمتع بها الأرض العربية الممتدة، وهو ما ترجمته أوضاع البنى التحتية الهشة في غالبية الدول العربية، وانعكس ذلك لاحقاً على التفكير الاجتماعي بعمومه، وكرس لحالة من الامتعاض الحقيقي عند إنسان الشارع العربي، وتزامن ذلك مع محدودية الحريات والانفتاح الاجتماعي. لقد بقي المواطن العربي حبيس الأحلام والتمنيات زمناً طويلاً ولايزال، فما كان منه إلا أن أيقظ المارد الذي بداخله، ليدخل في المغامرة السياسية التي طالما تصورها كذلك طيلة عقوده السابقة.

في الواقع لم يكن المواطن العربي بعيداً في ظنه ذاك، لأنه لم يكن قادراً على التفكير إلى الأمام أكثر، أو أن يعيش في خيال المستقبل المُتوقع على الأقل، ورزح نتيجة ذلك تحت وطأة التردد والحيرة.

ولا يمكنني قبول عذر طول المدة الزمنية التي قضتها المجتمعات الأوروبية، لتشكل شخصية الدولة عندها عقب ثوراتها، وتبني عمق ونسق واجهة مجتمعاتها الإنسانية، وتصل لقمة نضجها السياسي والاقتصادي الذي تحقق فيما بعد ثوراتها بالكلية، بينما سأقبل ذلك جزئياً على مضض، فقد توفرت للدول العربية التي قامت بثوراتها - التي أُطلق عليها لاحقاً ثورات الربيع العربي-، وهي التي نجحت في تحقيق مكاسب كبيرة في زمن قياسي جداً، العديد من عوامل النجاح السريع، وإمكانية الانخراط بنجاح في مسيرة التغيير العالمي، ورسم معالم التغيير المؤثر، ليس في روحها وحسب، بل في طريقة تفكيرها وشخصيتها بالعموم أيضاً، بناءً على ما توافر لها من مشاهدة للتجارب العالمية التي سبقتها بزمن. لكن الصادم في الأمر يكمن في تعثرها وعجزها – حتى الآن – في محاكاة أشكال الأنظمة ذات التجارب السابقة على المستوى العالمي، ووضح جلياً أن ثورات الربيع العربي لم تكن ترى سوى بعين واحدة فقط، ووضحت عشوائية تنفيذها فيما بعد، على الرغم من الشعارات العريضة والمدوية – الحقيقية في نظري - والتي رفعتها تلك الثورات مع تقدير الشوارع العربية لها، ودعمها الكامل لقيامها أملاً في رؤية التغيير الحقيقي الذي طالما حلمت به، وتقرر في المشهد الحالي ولو مؤقتاً تأخر ترجمة الأحلام العريضة إلى وقت آخر ربما. ووضح أيضاً أن تلك الثورات لم تكن تعرف كفايةً نهاياتها ولو قليلاً، ولم تكن على دراية مُسبقة بما سيعقبها وما ستؤول إليه الأمور، أو كيفية تعاملها تالياً مع المتغيرات الجديدة، وهو ما بدا وكأنه مأزقها ومعضلتها الكبرى، وباتت تعاني من صراعات وتحديات لم تكن في حسبانها، كما تحكيها أوضاعها الراهنة، واقعة في براثن مشكلة انعدام الرؤية السياسية لما بعد الثورات، وقضايا التغيير غير المستوعبة بالنسبة لإنسان الشارع العربي، والذي انقض فيه الطامعون على الصفوف الأولى، معلنين أحقيتهم بواجهة الصورة! في دلالة واضحة على هشاشة مزاعم بعد النظر السياسي. ولم تجن مجتمعات دول ثورات الربيع العربية أكثر من الأمنيات حتى الآن، في الوقت الذي تنبأ فيه العالم برؤية صورة جديدة ومغايرة لما سبقها، وثبت أيضاً أننا أمام ربيع ثورات أعور بكل أسف، وما زلت أتمنى وآمل في رؤية وطن عربي أكثر نضجاً ونجاحاً وتقدماً.