....وقد يمكنك بعد حين أن تضيف تركيا إلى قائمة الدول التي غشتها نيران التحول بداية من تونس.. ثم ليبيا ثم مصر فاليمن ثم سوريا فالعراق، إنها النار التي علقت بالسجادة ثم امتدت إلى وسطها وتمادت إلى أطرافها ثم بدأت محاولات إخماد هذه الحرائق عبر خراطيم المياه ثم ضرب السجادة بالعصي الكهربائية ثم الرصاص المطاطي، لكن النار ماضية إلى استكمال أهدافها وحرق مناطق السجادة كلها.
هل الحريق العربي كان عفوياً في بدايته ثم تحول لاحقاً إلى ما يشبه التدافع الذي يحدث مع أحجار الدومينو المتراصة أو المتكئة بعضها على الآخر؟
أم كان الحريق متعمداً في بدايته وفق تقدير يرى أن النار تكبر وامتدادها يتسع انطلاقاً من أن النار تبدأ من مستصغر الشرر.؟!
هناك من يرى أن البدايات كانت تظاهرات عفوية بمطالب صغيرة ومحدودة جداً لكن "غرور" بعض الأنظمة وفرعنتها واعتمادها على استخدام القوة المفرطة في المواجهات، وما ينتج عنها من إسالة للدماء هي التي نقلت المواجهات الشعبية من حدودها الدنيا إلى حدودها العليا وارتفعت معه المطالب الصغرى وصولاً إلى المطالب الكبرى.
كانت التظاهرات التي عمت مناطق الربيع العربي تريد "إسخاط" النظام وإثارة حنقه وإيقاظه من سبات الغفلة إلى شمس الإصلاح والعدالة، لكنها ـ انسجاماً مع ردود فعل الأنظمة التي تميزت بالتجاهل والغباء ـ رفعت سقف المطالب من صيغة الإسخاط إلى صيغة الإسقاط.
اللافت كما ورد في المقال اللافت للدكتور علي الموسى قبل يومين، والذي كان عنوانه: "حين يتعلم العربي: اليمن أنموذجا" هو ما توصل إليه الموسى من استنتاجات تتسم بشيء من الغرابة والمنطقية في نفس الوقت وبشيء من الوسوسة، مع أنها مؤكدة وبقدر من التخيل الممكن، وكنت كتبت في رسالة نصية لكاتبنا الموسى معلقاً على قراءته للوضع العربي أن ما أورده فيه تخرص صادق، وقلت له: هذا مقال مجنون يليق بالحالة العربية التي تمور بكثير من التحول والتغير وسلخ الجلد في كثير من الأمصار التي داهمتها النار، وكان الدكتور الموسى قد لاحظ أن الدول العربية التي سبقت في التعليم والأخذ بأسباب المدنية والرفاه هي الأكثر قلقاً والأنكى في تحولاتها التراجيدية التي تبدلت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مما فتح الباب مصراعاً لدخول الانتهازيين وموقدي الفتنة وتجار الحروب وسماسرة الأسلحة وقادة الطائفية والعرقية والتكفيريين والتفكيكيين والانغلاقيين، مما جعل ساحات المدن تراوح بين مد المتظاهرين من الفرقاء من كل المشارب الذين انقسموا إلى فريق الضد وفريق الــ"مع" وثالث ضد الضد وضد الــ"مع"، فلا هو مع الــ"مع" ولا هو مع الضد ، أما الفريق الرابع فيزعم أنه طيف مستقل عن كل الأطياف المتنافرة، والحقيقة أنه طيف مستغل وانتهازي ويلعب على كل الحبال.
وأنه وبقدر ما سالت الدماء في أكثر مدن الربيع العربي فقد قابلها سيل من الكلام في اليمن أنتج في الأخير توافقاً على التغيير بأقل الأضرار.
وإذا كان الدكتور الموسى قد توصل إلى أن المواطن العربي كلما ازداد تعليمه ازداد عنفه وجهله وسفسطته بما يعني – في نظره – أن التعليم العربي إنما يكرس الجدل وإذكاء الطائفية والإثنية وثارات المذاهب والأعراق، في مقابل أن اليمن لم يشهد عنفاً في تحولاته بنفس القدر الذي حدث ويحدث في مدن "التخريف" العربي رغم اكتظاظ اليمن بالتنوع الطائفي والمذهبي والقبلي.
لكن خلافاً لما يراه الموسى فإن هناك من يرى أن تدني التعليم في اليمن وشيوع الأمية حجة على اليمني وليست حجة له، وأنه إنما يتخلى بفعل الجهل عن حقوقه الأساسية فيما يرى أن انتشار التعليم في الضفاف العربية الأخرى هو الذي أسهم في رفع سقف المطالب والتطلعات وأن نور المعرفة هو الذي يضمن استمرار الثورات حتى تتحقق الأهداف الكبرى.
لكنني حتى مع غواية وإغراء الأهمية الجلية لنور المعرفة والتعليم، إلا أنني أميل إلى أن التعليم في العالم العربي إنما هو تعليم تلقيني وتدجيني لا يرسم لدى طالبه أفقاً تطويرياً بقدر يسهم في الابتكار والخلق، كما أنه لا يعطي الطالب حرية التعبير والإبداع خارج النصوص المقولبة والثابتة والنمطية التي يتم حقنها في آذان الطلاب ثم تنزلق خارج وعيهم وإدراكهم على الفور من انقضاء المهمة، وهي سكب هذه المحفوظات في ورقة الامتحان بما يجعل فترة الامتحان هي آخر عهد الطالب بهذه المعلومات التي لم يختزنها أو يستوعبها، وان حفظها ليوم تخشع فيه الأبصار المراقبة وهو يوم الامتحان النهائي الذي هو نهاية علاقة الطالب بهذه المادة الدراسية.