يصادف هذا اليوم مرور ستة وأربعين عاما على نكسة الخامس من يونيو 1967. ففي مثل هذا اليوم شن الطيران الإسرائيلي هجمات مكثفة على المطارات المصرية وتمكن من تدميرها جميعا، بما جعل القوات المصرية، المتواجدة في شرم الشيخ وبقية مناطق شبه جزيرة سيناء مكشوفة، أمام آلة الحرب الصهيونية. وقد دخل الأردن وسوريا الحرب، إلى جانب مصر، تنفيذا لمعاهدة الدفاع المشترك، التي وقعها البلدان مع القيادة المصرية، قبل فترة وجيزة من إعلان الحرب.
حديثنا هذا ليس معنيا بالعوامل المباشرة، التي أدت إلى الهجوم الإسرائيلي، فتلك تفصيلات، غدت متاحة، وقد تناولناها في أحاديث سابقة. ما هو متاح من وثائق، يؤكد أن تدمير الجيوش العربية هو موقف استراتيجي صهيوني، وأن التخطيط لضرب القوة المصرية، وفقا لمذكرات موسى شاريت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، قد تم التخطيط له، مباشرة بعد العدوان الثلاثي عام 1956.
التداعيات التي نتجت عن النكسة كثيرة، لكن الأهم والأبرز بينها، هو احتلال الكيان الصهيوني، لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان، وتضخم المساحة التي يسيطر عليها إلى ثلاثة أضعاف المساحة، التي بحوزته حتى ما قبل الخامس من يونيو.
هذا التطور في الصراع، أبرز جملة من الحقائق، أهمها أن القيادات العربية التي فقدت أراضيها، قد تغيرت نظرتها للصراع مع الصهاينة، من تعاطف مع أشقاء فلسطينيين، شردوا من أرضهم، واحتلت أوطانهم، وسلبت ممتلكاتهم، إلى حالة جديدة، أصبحت مهمتهم الرئيسية فيها، هي استرجاع الأراضي التي احتلها الصهاينة، في يونيو.
ذلك يعني بداهة، أن موقف ما عرف آنذاك بدول المواجهة، تحول من الحالة التضامنية، إلى الاستغراق الفعلي في الصراع. وما دامت الأرجحية هي لتحرير الأراضي العربية، التي احتلت حديثا، فإن ذلك يعني، في إحدى نتائجه، تراجع الملف الفلسطيني إلى الخلف، لصالح إزالة آثار العدوان.
لكن اندلاع المقاومة الفلسطينية، بعد الحرب مباشرة، وإثر سكوت المدافع العربية، قد أسهم في إبقاء جذوة القضية الفلسطينية حية، في ضمير الإنسان العربي. وجاءت معركة الكرامة في الأردن، لتضع قيادات المقاومة، في مصاف صناع القرار العربي، ولتصبح منظمة التحرير الفلسطينية شريكا أساسيا للقيادات العربية، في المواضيع المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني.
مفهوم الشراكة هذا، يعني أن منظمة التحرير تمارس دور الدولة، مع عدم وجود ما يسند ذلك من مفاهيم السيادة والاستقلال. هذا الدور أسهم في ترصين الموقف الفلسطيني، ونقله من الحالة الثورية، إلى حالة الشراكة السياسية مع بقية القيادات العربية. وقد تجذر ذلك، بشكل لا لبس فيه، بعد قرار القمة العربية، في الرباط في منتصف السبعينيات، بمنح منظمة التحرير الفلسطينية، وحدانية تمثيل حقوق الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج.
هذا يعني أن المنظمة، غدت جزءا من النظام العربي الرسمي، وتحديدا دول المواجهة. ولأن الأوراق التي بيد قيادة منظمة التحرير ليست من القوة، بحيث تضاهي قوة القيادات في مصر وسوريا والأردن، فإن من غير المتوقع، أن تكون قادرة على وضع القضية الفلسطينية في قائمة أولويات القادة العرب، بينما هم يسعون لتحرير أراضيهم التي احتلها الصهاينة.
الحقيقة الأخرى، ضمن تداعيات النكسة، هي خضوع أجزاء جديدة من الأراضي الفلسطينية، للاحتلال الصهيوني، هي الضفة الغربية والقدس الشرقية، وكانتا تابعتين للأردن، وقطاع غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية. لم يكن للمقاومة الفلسطينية تواجد في هذه الأراضي، قبل حرب يونيو. وبعد الحرب، التزمت مصر والأردن بقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يقضي بعدم جواز احتلال الأراضي العربية بالقوة المسلحة، ويطالب بإعادتها من خلال التفاوض السلمي، والحل السياسي، بعيدا عن اللجوء للقوة.
في هذا السياق، عول الفلسطينيون بالأراضي المحتلة حديثا على جهود الملك حسين والرئيس عبدالناصر، في استعادة أراضيهم، بالحلول السياسية، ولم يجدوا مبررا في الانخراط بالعمل المسلح الذي تقوده المقاومة الفلسطينية، وقد بقيت هذه النظرة سائدة، حتى تبني القادة العرب لقرار اعتبر منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. والإشارة هنا واضحة، وتخص الأردن وحده، الذي كان حتى تلك اللحظة يعتبر الضفة الغربية جزءا من أراضيه.
هنا فقط أصبح لمنظمة التحرير دور معترف به في الضفة والقطاع، عبرت عنه حالة النهوض التي برزت في الضفة ابتداء من عام 1974. وقد خلفت هذه الحالة حقائق جديدة في الصراع، لا تقل أهمية عن سابقاتها.
ركزت فصائل المقاومة، منذ تأسيسها على المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان وسوريا، لكن الأزمات العاصفة المتتالية للمقاومة في دول الطوق، جعلتها تهتم بالداخل. ومع حالة النهوض بدأ مركز الجاذبية في الصراع الفلسطيني مع الصهاينة، ينتقل رويدا رويدا، من المخيمات خارج فلسطيين إلى الداخل الفلسطيني، إلى الضفة والقطاع.
أسهم هذا الانتقال، في تأكيد مفهوم الشراكة، بين القيادات العربية، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبضمن هذا المفهوم الانتقال من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي. وقد عززت إرادة الفلسطينيين في الضفة والقطاع من هذه الاستراتيجية. فهؤلاء الفلسطينيون معنيون مباشرة، برفع نير الاحتلال عن كاهلهم، وليس تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. بمعنى آخر، هيأ هذا الانتقال للقبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت عام 1967، وليس على كل فلسطين. وكان ذلك نقلا في جاذبية الكفاح الفلسطيني، من مخيمات الشتات، إلى الضفة والقطاع.
تلك هي مقدمات التداعيات السياسية للنكسة على الصعيدين العربي والفلسطيني، لكن هناك تداعيات أخرى لا تقل أهمية، ستسعفنا في قراءة ما يجري الآن بالأراضي المحتلة، وستكون موضوع حديثنا القادم بإذن الله.