أكتب هذا الأسبوع من أستراليا، حيث تنقلت بين العاصمة (كانبيرا)، و(سيدني) كبرى مدن أستراليا وعاصمتها المالية والثقافية، و(ملبورن) ثاني أكبر مدنها وعاصمتها الاقتصادية والصناعية. وهدف هذه الزيارة التعرف على المجالات الواعدة للتعاون بين مجلس التعاون وأستراليا. فقد أصبح من الواضح منذ سنوات أن مستوى العلاقات بين الجانبين لا يرقى إلى الإمكانات والفرص لكل منهما.
ونتيجة لهذه القناعات، بدأ مجلس التعاون وأستراليا في عمل استكشافي مشترك شمل عدداً من الاجتماعات الوزارية والفنية في أبوظبي والرياض ونيويورك وغيرها، تناولت مشاورات بشأن القضايا الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى مناقشات فنية لأوجه التعاون الممكنة. وبناء على ذلك توصل الجانبان في عام 2011 إلى اتفاق للدخول في "حوار إستراتيجي"، ووقعا على مذكرة تفاهم في أبوظبي في مارس 2011.
وكان ظاهراً من كل الدلائل أن هناك عدة مجالات، على الأقل، تحتوي على إمكانات كبيرة للتعاون المثمر للجانبين، وتشمل الاستثمارات المشتركة، والطاقة المتجددة، والتعدين، والتعليم والزراعة، وطُرحت مقترحات عدة للإسراع في تفعيل تلك الإمكانات، عن طريق تكوين شراكات بين المعنيين – في القطاعين الخاص والعام - لاستغلال تلك الإمكانات وتحويلها إلى حقائق ملموسة.
وبناءً على تلك الاستنتاجات الأولية، وُضعت "خطة العمل المشترك" هي بمثابة خارطة طريق للسنوات الثلاث القادمة (2013-2016) لتفعيل التعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية، بالإضافة إلى الطاقة المتجددة والبيئة.
وقد دخلت خطة العمل حيّز التنفيذ هذا الأسبوع.
وتُظهر الإحصاءات حجم أستراليا وإمكاناتها المذهلة. فهي دولة في حجم قارّة، تبلغ مساحتها (7.7) ملايين كيلومتر مربع، أو ثلاثة أضعاف مساحة الجزيرة العربية، مما يجعلها سادس أكبر دولة في العالم من حيث المساحة. ولا يتجاوز سكانها (23) مليوناً، فهي من أقل الدول كثافةً سكانيةً، خاصة في المنطقتين الشمالية والغربية.
وبسبب قلة سكانها، تشجع أستراليا الهجرة الأجنبية. وبسبب هذه السياسة، أصبحت من أكثر الدول تعددية وتنوعاً، حيث ترجع أصول سكانها إلى نحو (170) دولة، ويعيشون في انسجام ملحوظ، مقارنة بالبلدان التي قدموا منها. وبدأ تطبيق هذه السياسة المرنة خلال العقدين الماضيين، بعد فشل سياساتها السابقة.
وباندماج المهاجرين وتعايشهم المثمر تقدم أستراليا درساً مفيداً لعلنا نتعلم منه في منطقتنا التي تضيق ذرعاً بالتنوع الثقافي. فليس في العراق، أو لبنان، أو سورية، سوى عدد محدود من الثقافات والأعراق، مقارنة بأستراليا، ولكنها أصبحت مجموعات متناحرة.
وأستراليا، من الناحية الاقتصادية، من الدول الكبرى. فهي الاقتصاد الثاني عشر في العالم، عضو في مجموعة العشرين، ويبلغ حجم اقتصادها نحو (1.5) تريليون دولار، ونظراً إلى قلة سكانها، فإن دخل الفرد يبلغ نحو (66,000) دولار، خامس أعلى دخل للفرد في العالم، بعد لوكسمبورغ، قطر، النرويج، وسويسرا، ولهذا الدخل المرتفع دلالات واضحة.
وبالمصادفة، فإن حجم الاقتصاد الأسترالي يعادل حجم اقتصادات دول مجلس التعاون مجتمعة، مما يجعل منهما معاً سوقاً ضخمة، ومن المفروض أن يكون حجم التبادل التجاري بينهما متناسباً مع هذه الحقيقة، ولكنه ليس كذلك، وإن كان في نمو مستمر في السنوات الأخيرة.
في عام 1992، لم يتجاوز التبادل التجاري بين أستراليا ودول المجلس (1.8) مليار دولار، وظل في ذلك الإطار حتى عام 2002، حين بلغ (3) مليارات دولار. ومنذ ذاك تضاعف التبادل التجاري أربع مرات، وبلغ (13) مليار دولار العام الماضي. ومنذ عام 1997، تمتعت أستراليا بفائض في ميزانها التجاري مع مجلس التعاون، وإن كان هذا الفائض في تناقص مستمر مؤخراً.
والتبادل التجاري مع أستراليا بالغ الضآلة حين نقارنه بالتبادل التجاري مع الصين، على سبيل المثال، أو الهند أو كوريا، ومن المفارقات أنه منذ عقدين من الزمن، لم يختلف حجم تجارة المجلس مع أستراليا كثيراً عن تجارة المجلس مع الصين، في حدود مليارين أو ثلاثة. أما اليوم فإن تجارتنا مع الصين تتجاوز (150) مليار دولار، أي اثني عشر ضعف تجارتنا مع أستراليا.
وفي حين يسعى الجانبان لتعزيز التبادل بينهما في تجارة السلع، فإن ما قد يكون أكثر أهمية هو تجارة الخدمات والاستثمار، حيث تبدو المكاسب الكامنة أكثر حجماً ومغزى. وما أُعلن مؤخراً عن دخول خطوط الإمارات في شراكة مع (كوانتاس) أكبر شركات الطيران الأسترالية، وقبلها شراكة طيران الاتحاد مع خطوط (فيرجين أستراليا)، هما مثالان فقط عما يمكن أن يتحقق من شراكات في مجال الخدمات.
ولهذه الأسباب يفضل مجلس التعاون ألا تقتصر اتفاقيات التجارة الحرة على السلع، بل أن تكون اتفاقيات شاملة، تعالج الخدمات والاستثمار، خاصة في أستراليا، حيث توجد فرص استثمارية مهمة في قطاعات الطاقة والتعدين والزراعة، يمكن استغلالها من خلال شراكات تعتمد على المزايا النسبية والتنافسية التي يتمتع بها كل منهما. فعلى سبيل المثال، لدى أستراليا خبرة كبيرة في زراعة المناطق الجافة، وهو مجال يمكن لنا الاستفادة منه مباشرة.
ولكن الاستثمار لا يتعين أن يكون بالضرورة في أستراليا أو دول المجلس، بل يمكن أن تعقد شراكات بين الجانبين للاستثمار في دول أخرى. ومن ذلك على سبيل المثال، الفرص التي تتوفر في القطاع الزراعي في كثير من الدول النامية، لمساعدتها على تحسين قدراتها الإنتاجية ومعالجة مشكلة نقص الغذاء في العالم.
وبالإضافة إلى الإمكانات الاقتصادية، تلعب أستراليا دوراً إقليمياً هاماً، مثلما تقوم دول المجلس بدور إقليمي هام، وفي الوقت نفسه يسعى كلاهما إلى زيادة دورهما الدولي، ولذلك، فإن التنسيق السياسي والتعاون الإستراتيجي بينهما يصبحان ضرورة.
وقد بدأ تحول ملموس في نظرة أستراليا إلى قضايا المنطقة، مثل قرار الأمم المتحدة في نوفمبر 2012م بشأن تعزيز الوضع القانوني لدولة فلسطين، حيث امتنعت أستراليا عن التصويت، بدلاً من الانسياق مع الولايات المتحدة وإسرائيل في معارضته. وربما كانت تلك أول مرة تتخذ فيها أستراليا مثل هذا القرار، إذ درجت في الماضي على معارضة المواقف العربية من قضية فلسطين.
وسيكون التحول أكثر شمولاً وجذرية لدى تعميق الحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وأستراليا في السنوات القادمة.