في أحاديث مجالسهم تشعر أحيانا أن في المملكة سيارات نقل عامة تجوب الشوارع تبحث عن كل من لا يرتدي ثوبا أو شماغا، وتقوم بإخراجه من البلد، هذه حالة من التهويل التي غالبا ما يصنعها الخيال الاجتماعي حين يواجه تحولا جديدا أو فكرة جديدة تستهدف تغيير وضع قائم ومألوف، استمع إلى أحاديث الناس عن أسعار العمالة والبناء والغلاء الذي سيحيط بنا بمجرد وصولنا لتاريخ 25 /8، ستجد الفكرة العامة الخاطئة، وهي أن الأجانب سيغادرون المملكة في هذا التاريخ.
إنها حملة تصحيحية بالمقام الأول، أي أنها تستهدف ذوي الأوضاع غير الصحيحة وغير القانونية من المقيمين على أرض المملكة ممن يعملون ويكسبون وينتشرون في الشوارع، وهؤلاء يمثلون مشكلة في كل بلدان العالم وليس في المملكة، اقرأ قليلا عن أنظمة وتعليمات الهجرة والجوازات في الولايات المتحدة مثلا، وستعرف ماذا تعني المخالفة في أي من أنظمة الإقامة، وكيف يتعرض من يقعون في أي من تلك المخالفات للعقوبة والاحتجاز أحيانا.
لم تكن العمالة تمثل أزمة حين كنا عبارة عن بضعة ملايين تكتظ بنا الشوارع في فترات الدوام صباحا وبعد الظهر، وحين كنا نسعى لسد احتياجاتنا من الوظائف الحكومية والتعليمية، التحولات الكبرى في أي مجتمع تفرض عليه إعادة النظر في أنماطه المعيشية وتنظيماته العامة، خاصة تلك المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والأمنية والسكانية والتنموية، ومن الواضح جدا أننا في المملكة قد وصلنا إلى تلك التحولات التي تفرض علينا إعادة النظر في واقعنا التنموي من مختلف جوانبه ليكون ملف العمالة والتوطين والتأهيل هو الملف الأول والأبرز.
اكتظ الواقع لدينا بالمؤهلين لشغل الوظائف التقليدية النظرية، وامتلأت كل فرص العمل التي من هذا النوع إلى آخرها، وظهرت طبقة من البطالة المتعلقة لا بضآلة سوق العمل لدينا، وإنما بتراجع التأهيل للكادر الوطني من جهة، ولانشغال هذا السوق الكبير عن آخره بالعمالة الأجنبية الرخيصة، وفي كل بلدان الدنيا لا يمثل العمل في القطاع الحكومي إلا نسبة يسيرة من الوظائف بينما تمثل بقية المهن الدائرة الأكثر احتواء وجذبا وظيفيا، هذا الواقع استمر لفترة ليست باليسيرة ولولا الأعداد التي تخرجها سنويا مؤسسات التعليم الفني والتقني لتراجعت الكوادر المهنية الوطنية إلى أقصى حد، إذن آن الوقت ليستيقظ الوعي العام لدينا باتجاه إعادة التوازن وخلق المناخ الطبيعي لتنمية طبيعية.
أولى وأهم هذه الخطوات هي إعادة تنظيم سوق العمل المليء بالأجانب، وهو ما يحدث الآن في هذه الحملة الضرورية، سوف نجد وعما قريب أننا كنا نضيع مساحة لا بأس بها من الوظائف التي تحقق دخلا متميزا بسبب الواقع غير المنظم لسوق العمل، سنكتشف أيضا أننا يجب أن نوجه جانبا واسعا من مؤسسات التعليم لدينا باتجاه التعليم المهني والتقني، تلك هي الضمانة التي ستخلق التوازن وستحافظ عليه، قد تبدو الأوضاع مركبة للبعض حين يعاد تنظيم سوق العمل، لكن ذلك سيكون موقتا، وموقتا جدا، سوف تستعيد حياتنا اتزانها التنموي، وسوف نعي ترتيب الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي الذي تراجعت بسبب تراجع العوامل المؤدية لتكوينها، التي تتمثل أولا في تأهيل مهني وتقني متميز وفي فرص وظيفية قادرة علة توفير حياة كريمة.
القضية في هذه الحملة ليست إخراج العمالة من المملكة، القضية فقط في إخراج العمالة المخالفة، بعد منحها كل الفرص المواتية لتصحيح أوضاعها، هكذا سنتحول إلى بيئة طاردة للعمالة المخالفة وغير المدربة وقادرة على بناء واقع جديد.