النهم التكنولوجي احتل حياتنا كثيرا، إذ صمتت الشفاه والألسن، وتحركت الأنامل معبرة عن صوت "الأنا"، وساد الصمت وظهر وحش الـ"واتس أب"، والقروبات التي أصبحت مساحة رائعة ليظهر فيها الجبناء والعقلاء المزيفون والحقيقيون، فآلية التواصل التي يكون طرفاها الإنسان وجهاز هاتفه سمحت بتضخم "الأنا" لدى البشر وظهورها بشكل واضح، فقلما تفتضح شخصية المتحاورين لكنها تظهر بوضوح أكثر وأدق مما لو كان التواصل بين شخصين متقابلين.
الـ"واتس أب" أصبح مكانا آمنا لتجرد الأنا بكل تجلياتها، فالتكنولوجيا سمحت لنا بالانفتاح على العالم والتواصل معه بشكل غير تقليدي، بل ودفعت الناس إلى شراسة غير مسبوقة في الحوار والتعاطي مع الآخر والنيل منه، هذا من جانب، أما ما له من له سلبيات فلن أسترسل في التنويه عنها، من الإدمان اليومي أو تبادل الشائعات، وتوسيع دائرة الانعزال بين أفراد المجتمع، فالجميع يعلم تماما إلى أي حد وصل الأمر. لكن هذا لا يعني أن نرى الجانب السلبي فقط، فهناك وجه آخر جميل كشف لنا شفافية البعض ومدى وعيهم وقدرتهم على الحوار والتعايش ضمن مجموعات حوارية صغيرة على مدار الأربع وعشرين ساعة، بالمشاركة النفسية والزمانية بكل تفاصيلها.
"واتس أب" انتهك أوقاتنا وخصوصياتنا وتسلل بخبث إلى أدق تفاصيل ليلنا ونهارنا ومنه تسلل لنا أعداء بأقنعة الأصدقاء، ومنه نطل على من نحب ومن نكره، وفيه ومن خلاله وتحت غطاء المزاح والحوارات التي لا تعتمد بالدرجة الأولى على المقابلة الحسية للآخر، نجد الكثير من الوجوه تسقط بشكل درامي؛ لأننا نكون في مواجهة حقيقة أشخاص على غير ما اعتدنا وعرفنا منهم. فتلك المساحة الضوئية الصغيرة المدعوة "واتس أب" مسموح لها أن تحتلنا تماما وتدفعنا للدخول في مجاهيل النفس البشرية، وهي تنطلق من الأنا البعيدة التي تكون: إما تلك الأنا الوديعة المحبة، وإما تلك الأنا المزيفة التي ترتدي ألف قناع ولا تتردد في كشفه والتعبير عنه عبر هذه الأيقونة الصغيرة، ولست أقول إلا كما قال الإمام الشافعي في مقولته الشهيرة: جزى الله الشدائد كل خير، عرفت بها صديقي من عدوي. فشكرا لـ"واتس أب" أبان لي صديقي من عدوي. إن الأحبة الصادقين لا تغيرهم الآليات ولا المسافات ولا "واتس أب".