"ولتعرف فقط، أن ما كان في عسير كان في لبنان، لكنك متصالح بطبيعتك مع المجتمع اللبناني لأنه مجتمع آخر. ولا تتصالح مع مجتمعك لأن عندك مشكلة".. هكذا يرد الزميل بندر خليل على أحد مناقشيه في "الفيس بوك"، في خضم نقاش عميق وعذب حول مفاهيم الهوية والتقليد، وما إلى ذلك من أسئلة إشكالية سيظل يطرحها الفن أبدا، وبشكل أكثر كثافة في المجتمعات التي ما زالت تعيش حقبة ما قبل الحداثة بكل مستوياتها.

في نقطة عدم التصالح مع المجتمع، مناطق شائكة يتقاطع فيها الوجودي مع الفلسفي، مع طبيعة تركيبة الفنان وحساسيته تجاه الأشياء، وتعاطيه مع الحياة سواء كانت واقعا يعيشه، أو مدى يتخيله. أتذكر الآن أننا تعاهدنا - ضمنا - كمجموعة من شداة الأدب والفنون قبل أكثر من عقدين، على أن ننأى بذواتنا عن بعض ملامح التطرف في إقصاء أشكال ثقافية هي بالضرورة جزء من صميم ثقافة المجتمع الذي ننتمي إليه، عقلا وروحا ووجدانا وتكوينا ذهنيا. لذلك لم ننفر من "الشعر العامي" بكل أطيافه، ولكم قطرنا ليالي ونحن نستاف أبياتا عامية وكسرات وأهازيز برفقة زملاء المرحلة ومن أوضحهم الآن في هذا السياق "عواض شاهر، وهاشم الجحدلي، وعيد الخميسي، وسعد الجحدلي، والحميدي الثقفي"، ومرت ليالٍ تجلى فيها الراحل الكبير محمد الثبيتي رحمه الله، وأدهشنا وهو يحررنا من أوهام التعالي على الموروث الشعبي.

وهو ما يحفر فيه ويشتغل عليه بدأب حفي بالتقدير الباحث علي عوض عسيري، منقبا عن دلالات الهوية في تفاصيل الموروث العسيري الذي هو بالضرورة متنوع ومتعدد تبعا لجغرافيا المكان وحتميتها.

في واحدة من تجلياته يقول العسيري على ذمة بندر:

"لم يكن الشاعر في عسير قديما، "شاعر قبيلة"، بل كان شاعر الحب والمقاومة، وشاعر الرفقة والوفاء، والعشق الأزليّ والحنين الكبير إلى الوطن/الأرض/الجبل/القرية، وإلى وجوه الأهل والخلان، والمعلوم أن القبيلة في عسير ونواحيها كالباحة وجازان، لم تكن حاضرة بشكلها الراهن، فالمجتمعات في تلك النواحي من بلادنا تتشكل بحسب المكان لا النسب كما قال هذا من قبل الصديق المؤرخ، ولذلك لم يكن الشاعر يخوض في النعرات الجاهلية التي تصم آذاننا اليوم، ولا يأتي على احتقار الآخرين، ولا يكيل المديح على شيخ القبيلة، ليغدق عليه من العطايا والمطايا! بل كان يفخر برموزه الوطنية التي دفعت الظلم والعدوان. وحافظت على الأرض، التي هي الوطن والعرض والمال وقيمة شرف الإنسان الكبرى، وهي كل شيء. لم يكن للعلاقة اللقاحية النسبية أي تأثير في صيغة المجتمع القروي".

الفنان الحقيقي لا يتعالى على مجتمعه وثقافته البتة، أو يتوسل ثقافات أخرى، قدر ما يتقاطع معها في إطار ما هو إنساني فقط.