تسببت مواقف روسيا من الربيع العربي في بروز تساؤل حول حقيقة توجهات سياستها الخارجية وعلى أي أساس يتم فيها اتخاذ القرارات، خاصة مع الأخذ في الاعتبار الموقف الروسي بشأن سورية والذي جعل السياسة الخارجية الروسية تعود لتصبح لاعبا فاعلا في المنطقة. هذا الأمر يستدعي محاولة فهم سياسة روسيا الخارجية بشكل أعمق خاصة أن أغلب الاهتمام في الكتابات السياسية خلال الفترات الماضية انصب على الدول الغربية الرئيسة وسياساتها الخارجية. لماذا تتصرف روسيا بهذا الشكل في سياستها الخارجية؟ وما هي المحددات التي تؤثر على قراراتها في هذا المجال؟ وما هي سياسة روسيا حقيقة في الشرق الأوسط؟ إن محاولة إجابة هذه الأسئلة لا بد أن تأخذ في الحسبان عامل الجغرافيا السياسية الروسية والخريطة المعقدة للصراعات السياسية الداخلية في موسكو ومنظومة مصالح روسيا الوطنية إضافة لساحة العلاقات الدولية التي تعد روسيا لاعبا فيها.
تعد الجغرافيا- السياسية أحد أهم عناصر تحليل سياسة أي دولة، وكذلك أحد أهم محددات اتخاذ قرارها السياسي سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، ومن ثم فإن عامل الجغرافيا- السياسية هو ما يبقي على استمرارية توجهات أي دولة رغم تغير قيادتها السياسية، ذلك أن محددات الجغرافيا السياسية تعتمد على عناصر أكثر رسوخا، ويظهر هذا الأمر في الحالة الروسية بشكل واضح حيث أجبرت الجغرافيا-السياسية روسيا على استمرارية توجهات معينة على امتداد عدة حقب تاريخية. ولذلك فإنه رغم التغير الإيديولوجي بدءا من روسيا القيصرية مرورا بالثورة البلشفية والاتحاد السوفيتي وانتهاء بروسيا الاتحادية الجديدة يمكن للمتابع أن يستشف استمرارية نمط معين في سياسة روسيا نابع من المحددات الجيو-سياسية التي تؤثر عليها. ويمكن اليوم تحديد ثلاثة عناصر رئيسة تؤثر في سياسة روسيا الخارجية بغض النظر عن طبيعة قيادتها:
أولا: جغرافية روسيا: تعد الجغرافيا العامل الأهم لفهم طبيعة السياسة الروسية، فروسيا الدولة الكبرى من حيث الحجم في العالم، تبلغ مساحتها حوالي 17مليون كيلومتر مربع ، كما تعد روسيا ضعف مساحة ثاني دولة تليها في القائمة (تبلغ مساحة كندا حوالي 9 ملايين كيلومتر مربع). ويبلغ فرق التوقيت بين شرق روسيا وغربها حوالي 9 ساعات. هذه المساحة الهائلة لدولة واحدة تفرض على روسيا عدة عوامل سياسية على رأسها أنها كدولة مترامية الأطراف هي في ذات الوقت دولة مستباحة الحدود، فمعضلة روسيا الأساسية أنه ليس لها حدود دفاعية (defensible borders) ولذلك ظلت وسيلة الدفاع الرئيسة لروسيا على مر العصور هي التوسع الجغرافي عسكريا وسياسيا خارج حدودها.
وتكمن معضلة أخرى فيما يخص جغرافية روسيا وهي أنها رغم اتساع مساحتها ليست لها منافذ مفتوحة لأعالي البحار، فمن جهة الغرب تطل مدينتا بطرسبرغ أو كاليننغراد على بحر البلطيق الذي يفصله عن بحر الشمال مضيق أوريسند، كما أن كلا من ألمانيا وبريطانيا تطلان على بحر الشمال، وهو ما يمثل عائقا آخر أمام اتصال روسيا بالمحيط الأطلنطي. وجنوبا تطل موانئ روسيا على البحر الأسود الذي يفصله عن البحر المتوسط مضيقا البوسفور والدردنيل في تركيا، وشرقا تعد مدينة فلاديفوستك الميناء الأهم لروسيا على بحر اليابان والمحيط الهادي ولكن نظرا لقربها من المدار القطبي فروسيا عموما تعاني من عجز الإطلالة على مياه دافئة طوال العام.
ونظرا لحاجة أي قوة عظمى لوجود قوة بحرية مساندة تدفع هذه المحددات بسياسة روسيا الخارجية لاتباع منهج معين وهو ما يظهر في أهمية ميناء طرطوس بسورية بالنسبة للاستراتيجية الروسية العامة، وكذلك سعي روسيا مؤخرا لاستمالة قبرص كميناء محتمل لها على المتوسط، كما أن إيران ضمن هذه الرؤية تعد موطأ مهما لروسيا للوصول للمحيط الهندي، وبصورة عامة تشكل سورية أهمية استراتيجية لروسيا ليس فقط لوجود ميناء طرطوس وإنما أيضا لأن سورية تشكل ورقة مهمة في علاقة روسيا بتركيا التي تتحكم في عنق الزجاجة التي تصل روسيا بكل من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب أوروبا.
ثانيا: ديموجرافية روسيا: نظرا لكون روسيا دولة قارية فإن هذا يفرض عليها الاستثمار في البنية التحتية لكي تصل غرب البلاد بشرقها. وبما أن الثقل السكاني والسياسي يتركز غرب البلاد (حيث مدينتا موسكو وسانت بطرسبرغ) فإن حاجة روسيا لعلاقات جيدة مع الصين التي تطل على جنوب سيبيريا أقصى الشرق تزداد مع الوقت (أمنيا واقتصاديا). ورغم أن روسيا دولة نفطية غنية (أكبر مصدر للغاز في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط بعد السعودية) إلا أن مساحة روسيا الهائلة تستوجب قيام اقتصاد قوي مرادف لذلك. روسيا في المقابل تعاني من أزمة سكانية حادة (يبلغ عدد السكان حاليا حوالي 143 مليون نسمة) ومن المتوقع أن ينخفض عدد السكان في روسيا خلال العقدين المقبلين بنسبة 10% (نسبة النمو السكاني في روسيا بالسالب) وهو ما دعا الرئيس بوتين لإطلاق حملة تحفيز لزيادة نسبة المواليد. من جهة أخرى تعاني روسيا من تغلغل المخدرات حيث باتت روسيا أكبر مستهلك لمادة الهيروين في العالم (20% من حجم الاستهلاك العالمي ووجود ما يقارب من 9 ملايين مدمن) وهو ما حدا بالرئيس بوتين أن يعين أحد أكثر المقربين منه من رجال المخابرات سابقا فيكتور إيفانوف رئيسا للهيئة الفيدرالية لمكافحة المخدرات، لكن إيفانوف نفسه أعلن قبل مدة أن مراقبة الحدود بين روسيا وكازاخستان أمر شبه مستحيل (90% من إنتاج الهيروين في العالم يأتي من أفغانستان). تفرض هذه المحددات على روسيا اتباع نهج في سياستها الخارجية يسعى لتأمين محيطها أمنيا من خلال توسيع دائرة نفوذها، وفي المقابل يدفعها للسعي لبناء علاقات اقتصادية تساعدها على النهوض.
ثالثا: أزمة هوية: إحدى معضلات روسيا القديمة هو تحديد هويتها بكونها دولة أوروبية أم آسيوية، ففي حين يتركز ثقلها السياسي والسكاني في الجزء الأوروبي الصغير غربا، تشكل الهضبة السيبيرية 70% من مساحة روسيا، وهو ما يجعل سياسة روسيا أسيرة التجاذب بين الاتجاه شرقا أو غربا. داخليا تواجه روسيا مشكلة انقسام عرقي وديني حيث تتشكل النخبة من الروس السلافيين التابعين للكنيسة الأرثوذكسية المتمركزين في الجزء الأوروبي، ورغم كون روسيا دولة فيدرالية بكثير من الولايات ذات الحكم الذاتي، إلا أنه منذ سقوط الاتحاد السوفييتي بدأت خطوط الانقسام تزداد سواء من العرقيات التتارية في سيبيريا أو من المسلمين والمسيحيين الكاثوليك في القوقاز. وتشكل منطقة القوقاز جنوب نهر الفولغا أحد مراكز الثقل السكاني في روسيا وكذلك القلاقل النابعة من مطالب الانفصال سواء في الشيشان أو داغستان أو انغوشيا، ويعد تمركز الحركات الجهادية في تلك المنطقة إضافة لزيادة نسبة المسلمين في روسيا (أعلى نسبة مواليد) أحد أسباب مواقف روسيا المتشددة حيال الحركات الإسلامية في سياستها الخارجية. وعلى كل تشكل الانقسامات العرقية والدينية في روسيا مع صعود جيل جديد من الشباب (بحلول 2030 يصبح 50% من سكان روسيا مواليد ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي) أسبابا تدفع روسيا لاتخاذ نهج محدد في سياستها الخارجية كوسيلة لتوحيد الصف الداخلي ومنحه هوية سياسية متفردة. بصورة عامة تلعب أزمة الهوية التي تعاني منها روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي دورا مهما في توجيه سياسة روسيا الخارجية، ويشهد على ذلك تقلبات السياسة الروسية الخارجية منذ عام 1990. (للحديث بقية)