إذا ألقينا الضوء على ذواتنا كعقلاء سنفترض أولاً أننا لسنا طائفيين لكن السؤال الرئيس: ما هو سر التراوح والتثاقل في حركة اللاطائفيين؟
إنني أتصور كي نصل إلى الهدف الصحيح علينا اختيار البداية الصحيحة. البداية الصحيحة بالنسبة لموضوعنا ـ الطائفية ـ هي توجيه أصابع الاتهام إلى الذات وما فيها من قصور، بدلاً من التفنن في نقد الآخرين، فلعلّ الحلّ يكون فينا لا عند الآخرين، على طريقة قول الشاعر: قد تدور حول العالم طلباً للحبيب/ ولست تدري أنّه بجانبك.
ولادة هذا المشروع وأقصد (اللاطائفية) في مجتمعاتنا الإسلامية يبدو أنها ما زالت متعسرة بل وتحتاج إلى عملية قيصرية، كونها لم تنبع من الداخل بل فرضت على هذه المجتمعات من الخارج، وأقصد بالخارج الدول العظمى ومخططاتها السياسية إلى جانب ظهور الكيان الصهيوني في المنطقة الإسلامية، لتكون اللاطائفية بالنتيجة حالة موقتة وهشة تعتمد أصولها على المكاسب الخارجية من الناحية السياسية، بل ونراها في كثير من الأحيان تدعم التطرف والطائفية المقيتة، ولا أكاد أنسى خطاب الوزيرة "كيلنتون" للكونجرس الأميركي عندما قالت: "دعوني أذكركم إن الذين نقاتلهم اليوم - وتقصد القاعدة - نحن الذين أوجدناهم ودعمناهم منذ عشرين عاما في حربنا على الاتحاد السوفيتي".. بل ويحكي لنا التاريخ بأن الطائفية والسياسة صنوان لا يفترقان وخير شاهد على ما نقول الحرب الطائفية الدامية التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648، والتي تعرف بحرب الثلاثين عاما، وقعت بين البروتستانت والكاثوليك والدول المتحالفة معهم، وكلفت الأوربيين الملايين من الضحايا، وخصوصا في ألمانيا التي خسرت حوالي نصف عدد سكانها، الذي كان يقدر بـ20 مليونا وهبط إلى 10 ملايين تقريبا.. لقد كانت بمثابة الحرب العالمية بكل معنى الكلمة، وقد اشتركت فيها معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر فيما عدا إنجلترا وروسيا. هذه الحرب الوحشية القذرة انتشرت فيها حالات القتل والنهب والتدمير حتى إن الكثير من القلاع التاريخية دمرت، وانتشرت المجاعة بشكل ليس له نظير في التاريخ وقد تحولت من كونها طائفية إلى سياسية، حيث تقول الأستاذة عشتار جيرجس في مقال بعنوان (الطوائف المسيحية وتاريخها الدامي): ".. اندلعت الحرب في البداية كصراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة على الدول الأخرى بين فرنسا والنمسا، بل ويعد السبب الرئيس في نظر بعض، ففرنسا الكاثوليكية تحت حكم الكردينال ريشيليو في ذلك الوقت ساندت الجانب البروتستانتي في الحرب لإضعاف منافسيهم آل هابسبورج لتعزيز موقف فرنسا كقوة أوروبية بارزة، فزاد هذا من حدة التناحر بينهما، مما أدى لاحقا إلى حرب مباشرة بين فرنسا وإسبانيا".
ولم يكن المسلمون بمنأى عن هذه الحروب الطائفية التي ذهب ضحيتها الآلاف في النزاع الذي دار بين الدولتين الصفوية والعثمانية لتعزيز شرعيتهما الدينية والسياسية. وعلى هذا النحو لم تكن الحرب طائفية بل كانت سياسية مغلفة بغطاء طائفي. نهاية الحرب الطائفية المسيحية انتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648 لحقها بعد ذلك تطور فكري وثقافي وسياسي واقتصادي، لكن نهاية الطائفية الإسلامية كانت بسقوط كل من الدولتين في عشرينات القرن الماضي ودخول حقبة الاستعمار التي استفادت من هذا الإرث لتكريس النفوذ من خلال سياسة "فرق تسد".
لكن التغير الذي تم في العالم الإسلامي كان بمثابة قفزة افتعالية دون أي تغيير في البنية التحتية للمجتمع مثلما تم في أوروبا، في العالم الإسلامي تم القفز لما يسمى بالدولة الحديثة دون المرور بتغيرات بنيوية للثقافة والفكر ومنهما للمجال السياسي والاقتصادي كالذي مرت به أوروبا - عصر التنوير كمثال - وبسبب هذه القفزة الافتعالية لا تزال كثير من المجتمعات الإسلامية هشة تغزوها الأمراض الطائفية بسهولة، الأمر الذي يدل على أن المنطلقات السياسية لا يعول عليها في القضاء على الطائفية، فهي أشبه بمسكنات للآلام تستخدم في بعض الأوقات ولكنها في الحقيقة لا تشفي من المرض.