الضوضاء هي أخطر أنواع التلوث البيئي على صحة الإنسان وأكثرها انتشاراً، لكنها كثيراً ما تُهمَل ويُستهان بأضرارها لأنه لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، ومصدرها أجهزة الصوت المستحدثة والتي لم تكن تعرف في المجتمعات البيئية الطبيعية السابقة.
تُعرف الضوضاء بأنها أصوات غير متجانسة تتجاوز شدتها المعدل الطبيعي لتصبح مؤذية للأذن ولصحة الإنسان، وخطورة التلوث الضوضائي والضجيجي أنه يُؤثِّر فينا شئنا أم أبينا، ومن غير شعور منا، فالأذن تلتقط دائماً حتى أثناء نومنا وليست كالعين التي نستطيع أن نغلقها عندما لا نريد أن نرى شيئاً.
أي صوت مرتفع وعالٍ ومزعج أو ضجة أو ضوضاء مفاجئة أو متعذر التحكم فيها ستشكل للإنسان ضغطاً، فيرتفع ضغط الدم وتتسارع ضربات القلب، وفي الكثير من الأحيان تكون ردة الفعل هذه قصيرة المدى ويزول الضغط بزوال المؤثّر، ويعود معدل ضغط الدم ودقات القلب إلى المعدلات الطبيعية، ولكن للأسف الشديد والمقلق أن ردود الفعل أصبحت مزمنة، نظراً للضوضاء المستمرة التي صنعتها الحياة المدنية الحديثة.
تقاس الضوضاء بوحدة تسمى "الديسيبل" Decibel، وهي وحدة قياس مستوى شدة الصوت، ولا بد أن يكون مستوى الضوضاء أقل من 25 ديسيبل لكي يستطيع الإنسان النوم والراحة، والهمس تتراوح شدته ما بين 20 إلى 30 ديسيبل، والمحاورة العادية نحو 60 ديسيبل، وازدحام السيارات نحو 70 ديسيبل، وهو ما يعادل ضوضاء المكنسة الكهربائية في المنزل، ومجفف الشعر يصل إلى 90 ديسيبل. والإنسان لا يستطيع التركيز والتفكير إذا زاد مستوى شدة الصوت عن 65 ديسيبل، وأما إذا تعدت 85 ديسيبل فيعتبر سيئاً لصحة الإنسان بل وخطيراً، علماً بأن القطارات ومحطات المترو والدراجات النارية تحدث حوالي 100 ديسيبل، والطائرات النفاثة تحدث أكثر من 120 ديسيبل..
لقد أصبح التلوث الضجيجي والضوضائي يحيط بنا من كل مكان، سواء في الشارع أو في الأماكن العامة مثل المطاعم والمقاهي والأسواق، ووسائل النقل من سيارات وقطارات وطائرات وآلات البناء والحفر والمعدات الثقيلة، وأيضاً داخل البيت مثل الأجهزة الكهربائية كالمكنسة الكهربائية والغسالة ووحدات تكييف الهواء، فيصل إلينا ونحن نيام على أسرتنا في ساعات متأخرة من الليل. بمعنى آخر أن هذا التلوث البيئي يُعدُّ أخطر أنواع التلوثات البيئية بسبب انتشاره الواسع ومخاطره التي يجهَلُهَا الكثيرون، والتي منها الطّنين وفقدان السمع الدائم نتيجة تلف في أنسجة وألياف الأذن الداخلية (قوقعة الأذن)، ففي أوروبا 60% من الشباب مُهدَّدُون بفقد سمعهم في سن مبكرة.
وقد أكد معهد الصحة القومي الأميركي أن التّعرض المتكرر على المدى البعيد لأصوات أعلى من 85 ديسيبل يؤدي إلى فقدان السمع، أما الآثار السّلبية على صحة الجسم بشكل عام فهي كثيرة جداً وخطيرة. أَبدأُ بتأثيرها على القلب والأوعية الدموية، فإنه بعد ثلاث ثوان فقط من التّعرض لضوضاءٍ تعدَّت النسبة الآمنة بقليل فإن الأوعية الدموية الصغيرة في الجسم تنقبض وتنكمش الشرايين وينقص حجم الماء بداخلها، وعندما تتوقف الضوضاء فإن هذه الأوعية تحتاج إلى 5 دقائق لتعود إلى طبيعتها، وسبب ذلك الانقباض هو أن الجسم يستقبل الضوضاء على أنها مهددٌ لسلامته فتتدفق وبسرعة فائقة هرمونات مختلفة في الجسم مثل "الأدرينالين" و"الكورتيزول" مما يؤدي إلى تقلص الأوعية الدموية.
وأكدت منظمة الصحة العالمية عام 1999 وجود علاقة بين التعرض المستمر المزمن للضوضاء (بقوة 70 ديسيبل أو أكثر) والإصابة بارتفاع ضغط الدم، وكذلك الذبحة الصدرية في دراسات أخرى حديثة. كما أن الهرمونات إذا استمرت في إفرازاتها لاستمرار الضوضاء فإنها تؤدي للإحساس بالقلق والتوتّر والتقلبات المزاجية والاضطرابات العصبية والصداع وعدم القدرة على التركيز واضطرابات النوم والانفعالات الزائدة وغير المبررة والاكتئاب على المدى البعيد بل وفقدان الذاكرة، حيث وجد على سبيل المثال أن 20% من المرضى نفسيا في فرنسا هم ضحايا التلوث الضجيجي.
أما الجهاز الهضمي فتزداد أمراضه من تفاقمٍ لقرحة المعدة وقرحة الاثني عشر ومرض القولون العصبي وانقباضات جدار المعدة، ونظراً لزيادة إفراز هرمون الكورتيزول، فإن الجهاز المناعي يضعف ويصبح الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المُعدية والالتهابات والأمراض السرطانية.
وقد تصل الآثار السلبية إلى بطن الأم الحامل لتؤثر على الجنين كذلك، فقد أشار الدكتور نويل جونس أستاذ علم النفس في جامعة لوس أنجلوس إلى أن صوت الطائرات يمكن أن يتلف مخ الجنين ونخاعه الشوكي، وفي دراسة أخرى وجد أن الضوضاء المفاجئة التي تصدرها الطائرات يمكن أن تؤدي إلى تدفق الأدرينالين الذي يقوم بدوره في تقليص الأوعية الدموية ويحرم الجنين من الأكسجين ويؤدي إلى إسقاط أو ولادة مبكرة أو تشوهات خَلقيَّة.
أمّا على مستوى العمل والإنتاجية فإن آثار التلوث الضجيجي من صداع وعدم القدرة على التركيز وضعف الذاكرة والتقلبات المزاجية والانفعالات الزائدة والقلق والتوتر والاضطرابات العصبية والاكتئاب كلها انعكست على إنتاجية الشركات، فقد قامت إحدى الشركات بإضافة مادة عازلة على الجدران لامتصاص الصوت مما أدى لانخفاض الأخطاء الحسابية بحوالي 25%، وكذلك الطباعة على الآلة الكاتبة بنسبة 27%، ودراسة بريطانية أخرى للعالم واتسون أوضح فيها زيادة نسبة كفاءة النّساجين البريطانيين عند وضع سدادات في أذنهم لتخفيض الضوضاء.
وأكدت منظمة الصحة العالمية أن الضجيج في المنزل أو المدرسة يؤثر على قدرة الأطفال على التّعلم، فوجد مثلاً أن الأطفال الذين يقطنون بجوار المطار قد حقّقوا نسباً أقل في القراءة وتأخراً في تطوير القدرات اللغوية، وباستمرار التلوث الضوضائي يفقد القدرة على التركيز ويعاني من تقلبات في المزاج والإحساس بالإرهاق والتعب وضعف الإنجاز في الأداء المدرسي بشكل عام مع زيادة الروح العدائية وقلة وضعف التعاون.
ما هي الحلول؟ أما على مستوى الدول.. فتخطيط المدن على أسس ومساحات واسعة وحدائق تتخللها لتكسر حدة الضوضاء وإبعاد المدارس والمستشفيات عن مصادر الضوضاء كالمطارات والسكك الحديدية والشوارع الرئيسية المزدحمة، ووضع قوانين تحد من استخدام آلات التنبيه للسيارات داخل المدينة، وقوانين صارمة لا تسمح بالضوضاء في الليل بشكل عام، وبناء المطارات بعيدة عن المدن السكنية، وتشجيع اقتناء الطائرات التي تتميز في تصميمها بأنها أقل ضجيجاً. وأما على مستوى الفرد والأسرة فاختيار موقع المنزل واستخدام مواد عازلة للصوت وزجاج سميك لتقليل الأصوات داخل المنزل، فلا يتم ترك التلفاز ليعمل سواء كان أحد أمامه أم لا، وإبعاد أماكن دراسة الأطفال عن الأصوات المزعجة الصادرة من المطبخ أو صالة الجلوس وتثقيف العائلة بأكملها بخطورة التلوث الضجيجي والضوضائي، ويتكاتف الكل ويتعاون لتحجيم وخفض الأصوات والضجيج أياً كان مصدره، وأن يراعي كل من في المنزل الآخرين وتخصيص أوقات من اليوم للجلوس في أماكن هادئة جداً ليعود توازن الجسم إلى حالته الطبيعية.
وسأخصص مقالي القادم عن التأثير المدمّر للموسيقى الصاخبة وأجهزة سماع الموسيقى على صحة الإنسان، لأنّها بحق أكبر بكثير مما يمكن أن يتصوره أحد لم يقرأ الأبحاث والدراسات الحديثة.