كالوتر المرتجف المقطوع يسحبني ذلك الصوت المثقوب بالوجع، والمتوشح بأنين الانكسار وسام العذاب، وتقرحات الروح، سمعت تلك الأصوات ليلا في إذاعة "البرنامج الثاني" وهي تريق شكواها في فجاج الأرض، وحنايا الأسحار، وعلى هالات المصابيح التعيسة "لا يعرف الليل سوى من فقد النهار" ونهارهم تقنع بالآلام والشجون والضيم المؤرق، وعتمة العمر المسروق والسطوة الرعناء من الآباء والأزواج والأبناء، والقرارات المعطلة من صغار الموظفين، كم أضناني حفيف تلك الآهات المبللة بالدمع، وهي تكاد تشرق بالبكاء وتذوب فوق كفوف المشاعر الصخرية، وطرقات الأيام الشمطاء، تتفصد حناجرها المرهقة والمكدودة بالزفرات، بعد أن ساخت في ظلمة التبريح الكابي، ومرارة الصبار المسموم، تمسي مسهدة الجفون مقروحة الفؤاد، مبعثرة الآمال، منهوكة الأحلام والمصير، وكأن الآخرين القادرين لم يسمعوا أو يقرأوا قوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم للناس) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعى لأخيه المسلم في حاجة فقضيت أو لم تقض غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) ألم تهزهم تلك الأصوات الموجوعة؟ وهي تغلي كالطواحين المحتدمة، وتضج كجوف البراكين السود.
استسلمت ذلك المساء لتلك الغمغمة المخنوقة والمتلعثمة، وهي تروي حكايتها مع فأس الحطاب الظالم، وهو يلوي الحبل حول عنقها ليهديها للزوج الرابع، ويدخلها حظيرة أغنامه، دون أن يسمع صرختها الدفينة، أو يتأمل وجهها المشروخ كالمرآة ياله من أب قاتل. عذبني ذلك الصوت الواهي والمشلول، وهي تروي حكايتها مع طبيب مقيم صنمي الحس وليس فيه براءة الأصنام، حين تركها كالصفيح المحترق، تتلوى تحت وطأة السرطان وهو يفتك بجسدها كالريح الضريرة، دون أن يفعل شيئا يسلكه في عداد البشر. أرقني نحيب تلك العجوز وصوتها المراق يخفق كحطام العشب اليابس، وهي تستحث تجار مدينتها لكي يرفعوا عن كاهل ابنها السجين صخرة الديون التي أثقلته وأبعدته عن زوجه وأطفاله، وعسى ألا يذهب صوتها كصراخ في بئر مهجورة. ارتطمت أذني بتلك الآهة الحرى والخافتة كالطائر المختنق، وهي تركض في صقيع الحياة وبين الجهات الأربع، بحثا عن مأوى لها ولأطفالها، بعد أن جار عليها ذات عشية زوج ظالم تمساحي المشاعر. شكرا صديقي المتألق "سعود الجهني" فبرنامج "لست وحدك" طفرة إنسانية وأخلاقية، لعلها توقظ فينا جذوع الأشجار الميتة، وتفتح أبواب الضمائر الغافلة والمترمدة.