أصبح الإنجاز من القضايا التي تؤرق المسؤولين على اختلاف مستوياتهم، ببساطة لأن نجاح أي مسؤول يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقدار ونوعية الإنجاز الذي يموله ذلك المسؤول ومؤسسته والعاملون معه، ولذا يبذل المسؤولون جهوداً مضنية أولاً في اختيار العاملين معهم ثم في تدريبهم وجعلهم في مستوى يحقق طموحاتهم. ويرى الخبراء أن الإنجاز يرتبط بالفرد حتى مع وجود نظام فيه خلل.. ومن هؤلاء (مالكوم جلادول) صاحب كتاب (المنجزون: قصة النجاح)، وهو موجه لكل مسؤول وصاحب عمل. وجاء هذا الكتاب بعد كتابيه الناجحين: (اللحظة الحرجة)، الذي حلل فيه الأثر الكبير لبعض الأحداث الاجتماعية التي يظن الكثيرون عدم أهميتها وعدم وجود أي أثر لها في المجتمع، وكتاب (رمشة العين) الذي شرح فيه مدى صحة وصدق وفائدة ردة الفعل الغريزية.. أما كتابه (المنجزون) فكما كتابيه الأولين وصل إلى قائمة أفضل الكتب المباعة. (جلادول) يطرح رؤية مختلفة لصناعة العبقرية وأسبابا مختلفة للتفوق وشروطا مختلفة للتميز.
ويرى أن الكل كان على خطأ في السابق عند ربط الإنجاز والتفوق بنسبة ذكاء الأفراد، ثم خرج لنا تعبير آخر طبقته معظم الشركات الكبرى، وهو الذكاء الوجداني، وهو توظيف المشاعر في العمل، إلا أن (جلادول) دحض بالأدلة والبراهين أن تلعب نسبة الذكاء أو توظيف المشاعر أدوارا ذات قيمة في تفوق الإنجاز وتميزه، حيث يقول: "لن يكون احتمال حصول الفرد صاحب نسبة الذكاء العالية للوصول إلى جائزة نوبل أكثر من احتمال حصول فرد صاحب نسبة ذكاء متدنية عليها".
وفي مجال صناعة العبقرية يطرح سؤالا مهما: هل العبقرية تُصنع؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن صناعتها؟ بمعنى آخر، كيف يمكن أن يكون الفرد عبقريا ويحقق إنجازا متميزا في حياته؟ وأجاب (جلادول) على هذه الأسئلة المهمة وهو يقول لنا في كتابه هذا كيف. ويدحض الفكر السائد الذي نؤمن به جميعاً، وهو إذا كان الإنسان موهوبا فإن الموهبة وحدها لا تحقق للفرد صنع الإنجازات ولا تحقق النجاحات ولا تصنع العبقرية.
هذه الموهبة يجب أن تغذى بشكل كبير "بظروف ملائمة"، أسماها "جرعة كبيرة من الحظ الجيد". و(جلادول) لا يؤمن بالبناء الذاتي للفرد.. فالإنسان لا يستطيع وحده مهما كان موهوبا أن ينجح ويحقق إنجازا ذا بال. إنه لا يؤمن بمساعدة الذات، فهو محبط لكل الذين يظنون أنهم يستطيعون بموهبتهم صنع المعجزات. كتاب (جلادول) يطرح ثلاث نقاط لتحقيق الإنجاز المتميز وكيفية صنع منجزين متميزين، وهي:
أولا: عدم الاعتماد على الموهبة، والموهبة فقط، لتحقيق التميز كما يظن الكثيرون. والأفضل موهبة ليس بالضرورة الأفضل إنجازاً.
ثانيا: كل الذين ينجزون أعمالا متميزة يحتاجون إلى قدر كبير من الحظ وإتاحة الفرصة.
ثالثا: إن قدرا كبيرا من الحظ يأتي كإرث مجتمعي. بمعنى آخر نتاج للمجتمع الذي أخرج هذا الفرد إلى العالم. وهنا بيت القصيد، حيث لا بد للمجتمع، كما يقول (جلادول)، من تكوين ثقافة تفسح المجال لأفراده بالتميز. ويؤكد على أن التميز هو ثقافة مجتمع وليس موهبة أو تصميما بالدرجة الأولى.
وهنا يجب أن تكون هناك وقفة تأمل حول مفهوم "الحظ" وما أثاره (جلادول) حوله.
لقد أعطى (جلادول) أمثلة كثيرة من مشاهير العالم أصحاب الإنجازات الكبيرة. على سبيل المثال (بل جيتس) حيث يقول إنه تحققت له فرص متلاحقة، أهمها أنه كان يعيش بالقرب من جامعة واشنطن التي كانت تسمح باستخدام مبانٍ للحاسب الآلي بين الساعة الثالثة والسادسة صباحا بالمجان. المجتمع هنا وفر الفرصة وأتاحها في وقت محدد بالمجان. وتحقق له الانكشاف على تطوير البرامج الحاسوبية في سن مبكرة. وإن نجاحه في ذلك تم بواسطة العديد من الحوادث التي حدثت له بمحض الصدفة والحظ. ويقول (جلادول): "إن بناء الذات بالنسبة للفرد لم يعد حقيقة، وإنه أسطورة". هذا الكتاب يقلل من أهمية العزيمة والتصميم الفردي ويعزو الأمر إلى ثقافة المجتمع.
(جلادول) يحترم ثقافة المجتمع التي تشجع على الاجتهاد والعمل الدؤوب.. ويعرض المثل الصيني الذي يقول: "الفرد الذي يستيقظ قبل الفجر على مدى 360 يوما في السنة لن يخفق في صنع الثراء لعائلته"، والبعض يرى تناقضا في طرح (جلادول)، إلا أنه يعني أن العمل الدؤوب جيد، لكنه لا يصنع وحده إنجازا متميزا. ويقول إن هناك أمثلة كثيرة في مجتمعات كثيرة لأفراد حصلوا على فرص وهم لا يستحقونها، وهناك أفراد فقدوا فرصا كثيرة وهم مستحقون لها، وذلك لأننا، كما يقول، نعيش في عالم غير عادل في توزيع الفرص.
وينتهي الكتاب إلى عرض المنطق الذي يؤمن به صاحبه، والذي يقول إن على الناجحين أن يكونوا أكثر كرما للأفراد الأقل نجاحا "للفاشلين"، كما يقول: "إنه من المؤلم أن الفرد يعزو نجاحه لتصميمه وجهده، ويعزو الفشل للظروف، وذلك للهروب من النقد والمسؤولية.. وهذا طرح معاكس لما يجب أن يكون عليه الأمر في عالم مثالي".
ولهذا وانطلاقاً من هذا الطرح الجديد يجب أن تكون هناك وقفة طويلة لاستعراض الثقافات السلبية الموجودة ومحاولة دراستها ومعرفة مدى تأثيراتها السلبية، وذلك بهدف تحقيق الإنجاز بالمستوى المطلوب. وخلاصة القول أننا عندما نريد بناء منجزين حقيقيين لا نكتفي بالموهبة، بل لا بد من توفير ظروف ملائمة لبروز هذه الموهبة لتحقيق الإنجاز، كما أن من نلتقي بهم أمرهم مهم في بناء الإنجاز.