-1-

عاش العرب في القرن العشرين ومطلع هذا القرن بين الحلم والواقع، كما لم يعيشوا من قبل.

كان القرن العشرون قرن الحرب العالمية الأولى والثانية، التي اشترك فيها العرب إلى جانب حلفائهم كما لم يشتركوا من قبل.

وفي هذا القرن، تحقق للعرب الخلاص من الاستعمار الفرنسي في بلاد الشام والمغرب العربي والإنجليزي والإيطالي في مصر، وليبيا، والسودان، والعراق، واليمن وبعض دول الخليج العربي، وليبيا. ولكن السلطات الوطنية التي تسلَّمت الحكم بعد ذلك في بعض هذه البلدان، لم تكن على مستوى الحلم العربي. فتناقض الحلم مع الواقع. كما تناقض حلم الحرية ونيل الحقوق الأخرى المرتجاة مع الواقع المرير الذي شهده العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين.

-2-

يؤكد جانب من الفكر السياسي العربي المعاصر، وجوب تفهم سبب هذه التناقضات بين الحلم والواقع. وأن الفهم الصحيح لها، يتم حين نضعها في سياقها التاريخي. فهي بالنسبة للعرب تعبير عن تناقضات أزمة تصفية الاستعمار التي مرّت بها الدول الأوروبية الاستعمارية. وهي تعبير عن تناقضات أزمة الانتقال من ثقافة الإحباط واليأس (كل شيء أو لا شيء) السهلة، والمريرة، واللذيذة، إلى الواقعية السياسية الصعبة، والمؤلمة. وهما أزمتان تغذي إحداهما الأخرى، ولن تحلا عقلانياً إلا في إطار الثقافة السياسية، والعقلانية للواقع العالمي.

-3-

ويبقى السلام الحلم الكبير في الشرق الأوسط. ولكن المشكلة أننا نخلط دائماً بين سلام الحلم وسلام الواقع.

فكما أن للحرب ثقافتها لدى الشعوب، فإن للسلام ثقافته أيضاً. ولكي يتمّ السلام لا بُدَّ لثقافته أن تسود في ظل سلام عادل وشامل، والتي تتجلّى بإعادة صياغة وعي المواطن بقيم حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية – الثقافية، فضلاً عن القيم الديموقراطية المحايثة لها.

فلكي يتطابق سلام الحلم مع سلام الواقع، لا بُدَّ أولاً من تحقيق التالي:

1- نشر التعليم والإعلام لإعادة صياغة وعي المواطن بالقيم الإنسانية التي هي العمود الفقري لثقافة السلام.

2- تعليم النشء التفكير بنفسه، والتزام الواقعية والعقلانية، والقطيعة الواعية مع جنون الهويات والحرب الثقافية، والتعاطي الفطري السحري الذي يطلب من الواقع إعطاءه نتائج مخالفة لقوانينه.

3- تعليم النشء تعليماً يركز على الفصل بين الثقافي والدنيوي وتقديس الحياة.

4- تعليم النشء التسامح لا بمفهومه القديم؛ أي قبول الآخر على مضض، ولكن بمفهومه المعاصر كما صاغته مواثيق حقوق الإنسان.

5- تعليم النشء الاعتراف بالحق في الاختلاف، والتعلم منه قدر الإمكان، لإغناء الذات. عندئذ، لا يعود الآخر حاملاً للغرابة مقلقاً، بل يغدو محاوراً شرعياً، وجاراً طيباً، وشريكاً لا غنى عنه.

6- تعليم النشء على التفكير في التعقيد المحايث، لكل القضايا والظواهر والأشياء، بدلاً من الترديد الببغائي السائد للأفكار الجاهزة والشعارات السهلة التي تتناسب فعاليتها عكساً مع كثرتها؛ أي تعليم يعلّم النشء النقد الذاتي.

-4-

وهنا، وعندها، نستفيق من أحلامنا، وندرك الوقائع، ومنها عوائق السلام التي يرى العقلاء الآخرون أنها تتمثل في:

1- أن يكون الطرفان المتعاقدان على السلام طرفين متكافئين. فالسلام – كما قال الرئيس الأميركي السابق وودرو ويلسون – لا يدوم إلا بين طرفين متكافئين.

فهل نحن متكافئون مع الآخر قوةً عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً، لكي يتحقق السلام الدائم والعادل؟

2- ولكي يدوم السلام، يجب أن يكون نتيجة الإيمان بالسلام. ونتيجة القوة، والطاقة، والإرادة، والعدالة، ومبدأ النصر. فالسلام لا يمكن تحقيقه بالسلبية والمسْكنة. فالسلبية والمسْكنة تجران إلى الحرب.

3- هل نحن العرب نسعى إلى السلام نتيجة لقوتنا وتفوقنا العسكري، ونتيجة لإيماننا بعدالة الحل السلمي معها، وأننا لا نسعى إلى السلام لأننا وجدنا أنفسنا غير قادرين على الحرب. وأننا لا نملك أدواتها من المال والسلاح والعلم، وأن لا سبيل إلى استرجاع شبر واحد من الأراضي المحتلة إلا بالسلام؟

فهل يدوم مثل هذا السلام – لو تمَّ - بين طرفين غير متكافئين على هذا النحو، أحدهما قوي، والآخر ضعيف؟

إن السلام والعدالة وجهان لعملة واحدة. وإن السلام ليس مجرد غياب التوتر، ولكنه حضور العدالة. فهل يمثل السلام العدالة، فيما لو تمَّ؟

4- إن ذهنية الإنسان العربي ما زالت ذهنية زراعية. وهي الذهنية ذات الإحساس الضعيف بالزمن الخطّي؛ أي التصاعدي. وهي حال الشعوب التقليدية التي هي سجينة المفهوم الدائري للزمن الذي يكرر نفسه عوداً على بدء مع عودة الفصول والمواسم. فهناك استهتار عربي بالزمن كما شاهدنا بوضوح في السنوات السابقة.