للدول، كما للرؤساء على مختلف أنحاء الأرض، علاقات أثيرة مع سياسيين ومثقفين وقادة رأي.. كل في بلد الآخر.. ويتحدث الرؤساء إلى أصدقائهم بانفتاح وشفافية وصدق، وغالباً ما يسدي الأصدقاء لقادة دول غير بلدانهم النصح ويهدون إليهم استشارات تساعد الحكومات على تنمية وتطوير ورعاية المصالح المشتركة بينها وبلدان أولئك الناصحين المخلصين.
وفي أحوال ومواقف ومناسبات شتى كان المردود الإيجابي لهذا اللون من الصداقات والروابط النزيهة فاعلية قصوى تفوق جهد ودور الأطر الدبلوماسية الرسمية.. عموماً تكمن أهمية الأمر في مرونة تلك العلاقات وعدم ارتباطها بالتزامات موثقة أو اشتراطات مسبقة.
وتسجل الروايات التاريخية القديمة والمعاصرة، وبالأخص مذكرات الساسة البارزين أمثلة مبهرة على هذه الشاكلة من الصداقات، وكيف أمكنها نزع فتيل حرب بين دولتين، ومعالجة بوادر أزمة خانقة بين شعبين، لدرجة تجعل نصح الأفراد ذوي المكانة المحترمة والصداقات السوية المرموقة صمام أمان لا غنى عنه عند راسمي السياسات في عصرنا الراهن.
ولا يتوقف تأثير علاقات كهذه على المستويات العليا، ولكنها في أحايين أخرى تأخذ عمقاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً يتخطى السياسات الحكومية، ويفرض نفسه عليها بقوة الضغوط الشعبية وجسارتها.
وفي العالمين العربي والإسلامي فإننا لا نبدو جزءاً من هذا الكون بحكم نزعة التخلف وتأثير عقدة الارتياب على نظرتنا العامة والسياسية للكاريزما الفردية بأنماطها العديدة.. ذلك أن لدى متخذي القرار في أقطارنا مواصفاتهم الخاصة، وتوصيفاتهم الصارمة لماهية الصداقات المرحب بها، ونوعية من يمكن اعتبارهم أصدقاء!! فالصداقة تعني التبعية والانصياع، والأصدقاء إما مرتزقة يملؤون الجيوب، أو صناع دسائس يعكرون الأجواء ويوغرون القلوب.. وفي كلتا الحالتين لا ممتهنو الارتزاق، عفوا، ولا الأفاكون شبعوا، كما ولا المفاهيم التقليدية البالية أخضعت للمراجعة والتقويم رغم تواتر المعطيات الدالة على فداحة الثمن الذي تدفعه الحكومات والشعوب جراء هذا المستوى من جاهزيات الارتهان.. ولعل الشاهد المعاش من مضاعفاتها السلبية أنها أحدثت خللا عميقا في تركيبة ومعايش المجتمعات الفقيرة، كما ساعدت في الوقت ذاته على تعبئة أكواخ الفقراء بالنقمة ضد مصادر الثراء الذي يوظفه الأصدقاء الأجلاف في استعراض فتوتهم والاستعلاء على مواطنيهم.
والملاحظ أن قدم الظاهرة لا ينفي محاولات تحديثها على نحو مؤسف، فمع اندلاع ثورات القرن الواحد والعشرين يمم معظم الأصدقاء التقليديين وجهتهم صوب مركز جديد للتحكم عن بعد بمسار الأحداث واختيار آلياتها من بين ذات الشريحة، غير أن المسألة لم تعد كما كنا نعهد، فالأصدقاء الذين مثلوا بالأمس حالة ترف فلكلوري فكه في صالات الاستقبال العاطفي وجدوا ثورات سهلة لا يحرسها تأصيل قيمي، فتقدموا الصفوف بإمكاناتهم السابقة والمستجدة، ورأوا غمازات إبهار خارج أقطارهم فهرعوا إليها، وهذه المرة – لا صداقة في العمل – يجزي المتلفع لحاف الثورة قدر جهده في تنفيذ ما يكلف به!!
والحال أن منطقتنا العربية تمر بمنعطف سياسي حاد يتعين معه البحث عن وسائط اجتماعية وثقافية واقتصادية محترمة ترفد القواسم المشتركة بين الشعوب من ناحية، وتنمي عرى الثقة والتكامل بين متخذي القرار في بلداننا من الناحية الثانية. وسائط شفافة على قدر من الالتزام الأخلاقي للمصالح العامة يمكن التعويل عليها في إزالة البثور المؤذية في كيان الأمة، وأصدقاء يفكرون بمستقبل الشعب العربي وكيفية حشد طاقات الأمة لمواجهة عوامل الوهن الذي يعطل قدرتها على التصدي لتحديات الحاضر وأعاصير المستقبل.
ولا ريب أن السبيل لتنقيح العلاقات البينية العربية يتطلب إعادة النظر في خصائص وماهية الوسائط الشعبية التي تحتاجها عواصم الدول العربية بعد عمر من التجريب بالمجربين!! وحسب المتتبع اقتفاء العبرة من المليارات المبعثرة في حقبتي صدام والقذافي.. وعندها نسأل: أيّ الثمار جناها كل منهما، سواء عندما أزفت ساعة الرحيل، أو يوم تكتب المادة التاريخية عن أخلاقيات تعاطيهما مع الشعوب الأقل نمواً؟