نعيش في منطقة تكثر فيها النسخ المتكررة من البشر، حيث الإبداع عملة نادرة، فما إن يبرز لدينا شخص مختلف، متفوق أو مبدع في أي مجال، حتى نسلط عليه الأضواء الكاشفة، فتهرع كافة وسائل الإعلام للاحتفاء به، وكأنه مخلوق فضائي هبط علينا! ولأن الكثير من الضوء يعمي، فهذا قد يفسر لماذا يحترق المتميزون والمبدعون سريعاً في عالمنا العربي مقارنة بمناطق أخرى في العالم. فقد اعتدنا الحديث عن دور الإهمال في القضاء على المواهب في المجتمع وتضييعها، لكن ماذا عن الاهتمام الذي يصنف على أنه "أكثر مما ينبغي"؟ خاصة لصغار السن من الشباب، الذين لم تصقلهم التجارب بعد، ولم تعلمهم كيف يستثمرون نجاحاتهم بشكل صحيح ليطيلوا عمر شموعهم، وممن لم يجدوا مرشدين أو معلمين يبصرونهم بتلك الحقيقة.
حين تصفحت العدد الأخير من مجلة "فوربس" في نسختها العربية، وجدت قائمة بالأشخاص الأكثر ثراء في المنطقة العربية، ولاحظت أن الوجوه المعروفة من بين هؤلاء للعامة قليلة جداً، ومعظمها عُرف بحكم مكانة العائلة، أو الاشتغال بالسياسة، وليس من خلال أعمالهم، فيما النسبة العظمى إما لم نسمع بأسمائهم قط، أو نعرفهم فقط بالاسم فقط. فهل ليس لدى هؤلاء الناجحين مادياً ما يقولونه في برامج تلفزيونية؟ أو ما يعملونه في دورات تدريبية؟ أو ما ينظرون به في وسائل الإعلام الاجتماعية؟ بالطبع لا، فلدى جلهم خبرة تراكمية لا تقدر بثمن، لكنهم مشغولون بتحقيق النجاح، وليس لديهم فائض من وقت ليقضوه في الاستعراض، فكل دقيقة من وقتهم تساوي الملايين.
بالمقابل لو نظرنا إلى شباب تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والخامسة والثلاثين تقريباً، وقد تصل إلى الأربعين في أقصى تقدير، وكانوا حتى الأمس القريب مجهولين تماماً، ثم قام أحدهم بتسجيل هدف، أو تأليف رواية، أو كتابة قصة، أو نشر بحث علمي متميز، أو الحصول على جائزة مرموقة أو حتى مدفوعة الثمن، أو القيام بعرض كوميدي، أو تقديم برنامج إذاعي أو تلفزيوني خفيف، أو المشاركة في واحد من برامج المواهب الغنائية، أو إلقاء محاضرة عن الإعلام الاجتماعي، حتى نفاجأ بأن الإعلام بكل أنواعه صار موجهاً عليه، نافخاً له، فتراه على شاشات كل الفضائيات، وتقرأ مقابلاته في كافة الصحف والمجلات المطبوعة والإلكترونية، وتجده يدعى للحديث في المحافل الوطنية والعربية.. باختصار يصبح نجماً بشكل فجائي وسريع وغير متوقع لأحد، وأولهم هذا الشخص نفسه!
وفي غياب النقد الموضوعي، والنصيحة الصادقة، يصاب نجمنا بداء النرجسية. ومع أن التاريخ يحفظ لنا أسماء كثيرة لمبدعين مغرورين، إلا أنه برأيي فأولئك أصيبوا بالغرور بعدما نجحوا في الوصول إلى القمة بعد سعي طويل ودؤوب، بعد أن نضج إبداعهم، ونضجوا هم كأفراد، فصاروا يدركون قيمتهم الحقيقية، ولهذا استطاعت النرجسية، في حالات محددة، التعايش مع التفوق والإبداع. إلا أنه في حالة نجومنا الذين انتقلوا من الدور الأرضي إلى الثلاثين بمصعد يعمل بسرعة الضوء، ولم يستخدموا السلالم أبداً، فهي تصيب إبداعهم في مقتل، تحرق الكعكة، وتطفأ الشمعة! لأن التركيز لم يعد على العمل نفسه وتطويره وتطوير أنفسهم، بل تحول في أحيان كثيرة إلى عملية تسويق وعلاقات عامة، يظن النجم فيها أنه عارض أزياء، وتعتقد من خلالها النجمة بأنها جديرة بالترشح لجائزة نوبل!
فيصبح بعضهم أسيراً للعمل الواحد الذي حقق له هذا النجاح والتفوق، غير قادر على الخروج من إطاره فينتهي، فلا يصبح الكاتب كاتباً بعد كتابة مقال واحد، ولا المغني مغنياً بعد أن يشدو بأغنية واحدة، ولا الروائي روائياً برواية واحدة. آخرون يقعون في فخ التكرار الممل، أو وهو الأسوأ، الإسفاف والاستخفاف، فيخرجون، ليس فقط عن النص، وإنما عن الذوق والآداب العامة، ويشعر الجمهور الفطن بهذا، فيبدأ بوصف العمل "بالبايخ" والشخص نفسه بالسماجة! وشيئاً فشيئاً ينفض السُمار، دون أن ينتبه النجم الذي انتفخ وصار مقتنعاً بأن الأمهات عقمن أن ينجبن مثله! وحين ينتبه يكون الوقت قد فات كثيراً لتدارك ما قد حصل، فيخسر الشخص تميزه، ويخسر المجتمع إبداعاته.
كيف كان يمكن تلافي ذلك؟
ببساطة، عن طريق إنزال كل شخص قدره، وعن طريق جعل النقد الهادف يمشي بالتوازي مع المديح والاحتفاء. مثلاً حين تنشر الصحف خبر فوز مبتعث بجائزة ما، نريد مع الخبر رأياً لخبير محلي في تخصصه يخبرنا عن أهمية هذه الجائزة علمياً في واقع الأمر، وقيمة بحثه أكاديمياً، وكيف يمكن أن يستغل هذا النجاح مستقبلاً. وحين يخرج علينا شاب صغير برواية مختلفة، لا نطير به ونقول عنه "نجيب محفوظ السعودية" فنظلم الفتى ونظلم الأستاذ نجيب محفوظ، وإنما يحتفي النقاد لمواطن التميز في إنتاجه الأدبي، وينبهونه إلى الثغرات في عمله الأدبي لجهة اللغة أو الأساليب أو الصياغة، حتى يخرج عمله الثاني - بإذن الله- بشكل أفضل. والأمر عينه ينبغي أن يحصل مع نجوم اليوتيوب الذين تكاثروا بطريقة الأرانب في زمن قياسي، ففي البداية كانوا هواة نتعامل معهم على هذا الأساس ونشجعهم، لكنهم صاروا محترفين، لديهم رعاة ومعلنون، ويقومون بجولات داخل القطر وخارجه، ويحققون مكاسب مادية جيدة، وبالتالي فلا بد من نقد أدائهم بموضوعية فنياً وأخلاقياً. فبعض شبابنا أخذوا من "الستاند آب" في الكوميديا الغربية ما هو أكثر من الاسم، استوردوا الشتائم واللعن والإيحاءات الجنسية، وهذا عيب ولا يليق بالفنان ولا الجمهور الذين من بينهم أطفال يتطلعون إليهم بإعجاب.
همسة أخيرة في أذن النجم أو النجمة: قيمتكم تكمن فيما تحسنون القيام به، ومعظمكم بالفعل موهوب ومتألق، ولكن شهرتكم تأتي من حب جمهوركم لكم، والذي بدوره يغذي اهتمام وسائل الإعلام ومنظمي المناسبات بكم، ومتى ما شعر جمهوركم بتعاليكم عليه فسينفض عنكم، وتعودون بعدها فجأة كما كنتم سابقاً، أشخاصاً عاديين لا يعرفكم أحد، وتعيشون بقية عمركم على ذكرى الخمس عشرة دقيقة من الشهرة التي كانت – ذات ساعة- لكم، كما بشر بذلك الفنان الأميركي "آندي ورهول" في ستينات القرن الماضي حتى قبل أن تولدوا!