العنف على الهويّة يعني أن يُنازع الناس على تعريفاتهم وانتماءاتهم التي يختارونها لأنفسهم. بمعنى أن تتولى جهات أو أفراد خارجيون فحص هويات الناس وإصدار أحكام بخصوصها. يمكن فحص هذا العنف من خلال الموقف من الهويات الجوهرية التي يحقق الأفراد وجودهم من خلالها. على سبيل المثال الهوية الجنسية/الرجولة والأنوثة، الهوية الوطنية/الولاء وعدمه، الهوية الدينية/المتدين الصالح من عدمه والهوية الثقافية/حداثي وغير حداثي، ليبرالي وغير ليبرالي. الصراع الحاد ينصب عادة على هذه الهويات، فهي معايير النفي والإثبات لوجود الأفراد الآمن في الجماعات التي ينتمون لها. الشاب المراهق الذي اختار الرجولة كهوية جنسية اجتماعية والذي يُمارس عليه ضغط يومي في المدرسة لتصنيفه كرجل ضمن شروط تضعها الجماعة أو نزع هذا التصنيف عنه يتعرض لعنف تجاه هويته الجنسية التي يرى أنها تعبّر عنه. الفتاة التي تكتب الشعر وتختاره كهوية ثقافية (شاعرة) وتتعرض من النقاد أو من آخرين لمحاكمات ليس حول شعرية ما تكتب، بل حول كونها شاعرة أو لا من الأساس وفق معايير خاصة، تتعرض لعنف هوية. العنف على الهوية هو ربما أحد أعنف أشكال الصراع التي خاضها البشر ولا يزالون يخوضونها عبر التاريخ. في هذه المقالة أتحدث عن أن المثقف المصارع هو أحد الممارسين لعنف الهوية في علاقاته الثقافية، كما أنه في ذات الوقت موضوع لهذا العنف.
يمكن لنا البدء في فهم عنف الهويّة في سياقه الثقافي من خلال التفريق بين نوعين من الأحكام: الحكم على الفعل أو القول، والحكم على ذات الفاعل أو القائل. مثال الأول: هذه القصيدة غير حداثية ومثال الثاني: هذا الشاعر غير حداثي. موضوع الحكم الأول هو المنتج الشعري للفرد، وموضوع الثاني هو هويّة هذا الفرد. المساحة التي يشتغل عليها الناقد في المثال الأول محدودة بالمنتج الإبداعي، وهو عالم مفتوح ومشترك للجميع، أما المساحة التي يشتغل عليها في المثال الثاني فهي مساحة خاصة جدا وذاتية. على ذات المنوال يمكن التفريق بين أحكام في سياقات أخرى تأخذ ذات الطبيعة: (دينيا) هذا القول كفري/ فلان كافر، (جنسيا) فعل كذا وكذا ليس من الأنوثة/ فلانة ليست أنثى، (وطنيا) فعل كذا وكذا خيانة/ فلان خائن. المثقف المصارع يتحرك كثيرا في النوع الثاني من هذه الأحكام، فهي عادة ما يحقق أهداف الصراع ونفي الآخر والانتصار للذات وإحداث شعور بالانتصار للذات بالأذى والألم للآخر. الأحكام من النوع الثاني هي علامات على امتلاك سلطة معيّنة يمارسها المثقف المصارع، فكما يستمتع الشيخ التكفيري بإصدار أحكام الإسلام والكفر على الناس، والعرقي بإصدار الأحكام على العرق الراقي من الهابط، فإن المثقف المصارع يستمتع بممارسة ذات الدور بتوليه لإصدار الأحكام على من يستحق لقب الشاعر أو الروائي أو الفيلسوف من عدمه. المثقف المصارع يتولى في تفكيره سؤال: من أنت؟ هو يعمل على تعريف ذاتك وإخبارك من أنت.
النوع الثاني من الأحكام ينقلنا من السياق الفكري المباشر إلى السياق الأخلاقي المباشر. بمعنى أن الحكم على هويات الناس يترتب عليه بالضرورة أن يكون الإنسان الفرد هو موضوع التفكير والفعل والعلاقة. الحكم على قصيدة معينة بأنها غير جيدة يختلف عن الحكم على فلان الذي يقول إنه شاعر بأنه ليس شاعرا. الحكم الثاني يترتب عليه الحكم على هذا الشخص بأنه إما (كذّاب ومدّع أو واهم) أو أنه لا يعرف حقيقة ذاته. المثقف المصارع هنا بالضرورة إما يصدر حكما أخلاقيا بكذب وزيف ونفاق خصومه أو يدعي دعوى أكثر إشكالا أخلاقيا، وهو أنه يعرفهم أكثر من معرفتهم لأنفسهم. المثقف المصارع هنا يعمل كما يعمل الطبيب النفسي الذي يتعامل مع مريض تم تشخيصه كمريض فصام في الشخصية. الطبيب هنا كما المثقف المصارع ينطلقان من عجز هذا الفرد عن معرفة ذاته وتحديد هويته التي تمثله فعلا. الفرق بين الطبيب والمثقف المصارع أن الطبيب لا يحكم قبل أن يعرف هذا الفرد ويلتقي به، بينما المثقف المصارع قادر على إرسال أحكامه عبر التاريخ كما عبر البحار. كذلك معايير الطبيب أقرب للموضوعية، أما المثقف فهي أقرب للشخصية بكثير. إذا كان الاستبداد في عمقه هو عنف على الهوية فإن المثقف المصارع هو إحدى علامات هذا الاستبداد. إذا كان الاستبداد يعني أن هويات الناس يتم تحديدها من خارجهم وتفرض عليهم وينازعون حقهم في تغييرها والحركة داخلها، فإن المثقف المصارع الذي لا يكتفي بالعمل على ما ينتجه الأفراد وينتقل بالعمل على تعريفاتهم التي اختاروها لأنفسهم لينازعهم إياها، هو ممارس لهذا الاستبداد. رجل الدين المتطرف الذي يحمل مسطرة ثابتة يحكم من خلالها على عقائد الناس، يقابل المثقف الذي يحمل مسطرة مشابهة. المثقف متعدد المساطر فواحدة لتحديد من هو الشاعر وأخرى لتحديد الروائي وأخرى لتحديد الحداثي وأخيرة لتحديد الليبرالي.
الفرق الذي نعرفه نحن بين رجل الدين المتطرف والمثقف المصارع أن الأول يملك تأثيرا عمليا بتحويل أحكامه إلى أفعال تجاه الأفراد، يختفي في السياقات التي تنزع من رجل الدين هذه الصلاحية. هذه السياقات تعمل تحديدا على تأمين الناس على هوياتهم ومنع "المتخصصين" من منازعتهم عليها. في سياقات الهويات الآمنة يتجنّب الناس إصدار الأحكام على الأفراد إقرارا بعنف هذه الأحكام وحجم الدعاوى الفارغة فيها. في سياقات الهويات الآمنة يعرف الناس مقدار جهلهم بالآخرين وتعقيدات حياتهم، مما يجعل إصدار الأحكام عليهم بلا معنى. المثقف المصارع مؤذ جدا، خصوصا إذا امتلك سلطة أكاديمية أو معرفية، فهو عقبة في وجه التغيير والحرية. داخل المؤسسات الأكاديمية والثقافية التي لا تحمي هويات الأفراد يصبح المثقف المصارع تعبيرا وحضورا مباشرا للاستبداد وقمع الحريات. يتناقض المثقف المصارع مع سقراط الذي نادى قديما بـ"اعرف نفسك"، فشعاره هو "أنا أعرّف لك نفسك".