عرفت لبنان منذ عام 1969 حينما ذهبت إليه للمرة الأولى سائحاً، وقبل ذلك عرفته معنوياً وأحببته وجدانياً.. عن طريق كتب: جبران خليل جبران وأشعار إيليا أبو ماضي وغيره من شعراء المهجر، ثم كتب الريحاني وميخائيل نعيمة ونقولا زيادة وغيرهم..

وأول ما شدني للبنان قبل رؤيته.. قول ابنه وأديبه العبقري (جبران) قبل 100 عام وكأنه يتحدث عن لبنان اليوم:

(لكم لبنانكم ولي لبناني... لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله! لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني! لكم لبنانكم فاقنعوا به، ولي لبناني وأنا لا أقنع بغير المجرّد المطلق!

لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلّها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء!

لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، وأما لبناني فأودية هادئة سحريّة تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.. لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية!

لبنانكم طوائف وأحزاب.. أما لبناني فصبية يتسلقون الصخور ويركضون...

لبنانكم ـ كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار، ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنع.. لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش...) إلخ.

هذا بعض ما قاله الفيلسوف والفنان "جبران" ابن لبنان في الماضي البعيد فهل تغير الحال؟

للأسف: لا.. وأقولها بصدق ومرارة ومحبة لهذا البلد الجميل والصغير، والكبير بثقافته وحضارته وأهله.

يوم جئت للبنان للمرة الأولى قبل أكثر من 40 سنة، ذهلت من تقدمه وازدهاره، واحترام شعبه لنفسه وللغريب! وعدت إليه مرات كثيرة حتى قامت فيه الحرب الأهلية المؤسفة في صيف عام 1975، واستمرت إلى توقيع اتفاق الطائف عام 1989.

وعدت إلى لبنان عام 1994 فوجدته غير لبنان الذي أعرفه وأحبه، فبعد أن كان واحة للحرية والحب والانفتاح أصبح غابة للتعصب والكره والانعزال!

حطمت الحرب الطويلة بحقد بنيته التحتية.. ومدنه وقراه.. وإنسانه.. وهو الأهم، يا لها من سـنوات عجاف، حولت هذا البلد الذي نحبه إلى بلد نتحاشى حتى الذهاب إليه.. بعد أن كنا نفرح في القدوم له؟!

كيف صار لبنان المزدهر مادياً ليس بالسياحة وحدها وإنما بالمصارف والاقتصاد النشيط، والصحافة والفكر والنشر، والمأوى لكل المضطهدين في بلدانهم الموبوءة بالظلم والتخلف والاستبداد؟!

لقد هشمت الحرب الطائفية وجه لبنان الجميل، وأصبحت بيروت التي كانت لؤلؤة الشرق، مدينة قديمة مكتظة بالسيارات المستهلكة، والمتسولين، (والبصارات) في المقاهي والساحات؟!

فأين شارع الحمراء الذي كان بمقاهيه الثقافية ومكتباته العامرة، وأدبائه وشعرائه، ومثقفيه؟

لقد تحول إلى "بازار" للتبضع، ومطاعم لملء البطون!

إن لبنان الذي نحبه نريده أن يعود كما كان بل وأفضل مما كان، نريده.. متآلفاً.. متحابا، لا فرق بين مواطنيه من حيث الدين أو المذهب أو الطائفة، وأن تكون فيه حكومة لكل اللبنانيين وليس لبعضهم، حكومة تغلب المصلحة الوطنية العليا، على المصالح الشخصية الضيقة، حكومة ناجحة تحل مشاكل التضخم والغلاء وانقطاع الكهرباء، فحرام أن يبقى لبنان على ما هو عليه، من فقر وحاجة وتمزق، وهو الغني بموارده الطبيعية، وشعبه الذكي العامل.. حرام أن تتجاذب الأطراف المحلية والدولية رداءه، فتمزقه تارة، وتعرّيه تارة أخرى! وتكشف ستره أمام العدو والصديق!

ويا زعماء لبنان ـ أفيقوا من غيّكم ومناكفاتكم التي لا تنتهي قبل الكارثة.. ولا تكونوا كأمراء الطوائف.. الذين أضاعوا الأندلس؟!