أنس محمود الشيخ
كردستان العراق
حاولت حكومة المالكي بشتى الوسائل تشويه صورة الاعتصامات التي تشهدها المدن السنية في العراق حاليا باتهامات شتى، على الرغم من محاولات المعتصمين الحثيثة للتأكيد على عدم ارتباط الموضوع بأي توجهات طائفية لديهم، تجلى هذا الرفض في مطالبهم التي هي مطالب عامة تخدم كل الشعب العراقي، والشعارات التي رفعوها إضافة إلى النداءات الكثيرة تطالب جميع المدن العراقية للخروج في تظاهرات مماثلة.
اعتمادا على العلاقة الجدلية للمعادلة العراقية الداخلية نقول إنه حتى لو كانت المنطلقات التي ينطلق منها المتظاهرون هي منطلقات طائفية فلا ينبغي توجيه أصابع الاتهام إليهم بقدر ما يشار بها إلى حكومة المالكي، فهذه الأحزاب الشيعية الموجودة حاليا في السلطة هي نفسها من كانت تتهم نظام البعث السابق بأنه كان نظاما طائفيا (رغم علمانية البعث وعدم انتمائه لأي طائفة)، وعلى أثرها تم تأسيس أحزاب مذهبية شيعية تتبنى الطرح الشيعي المذهبي كمبدأ نشأت عليه كرد فعل على الممارسات القمعية لنظام البعث الحاكم، ولذلك فعندما تتسلم الأحزاب هذه السلطة في العراق ويكون توجهها السياسي هو باتجاه فرض رؤاها السياسية المصبوغة بالفكر المذهبي الذي تحمله على الأمور في مختلف مؤسسات الدولة؛ حينها لا يمكن لها انتقاد ردود الأفعال التي تحصل هنا أو هناك في المكون السني حتى لو كان مصبوغا بشيء من المذهبية بل عليهم محاسبة أنفسهم أولا ومعالجة الأفعال التي تسببت في ردود أفعال كهذه.
يمكن اعتبار الظروف التي يمر بها العراق حاليا هي من أخطر الظروف التي تواجه العملية السياسية منذ 2003 ولحد الآن، وعلى الرغم من ذلك فإن الائتلاف الوطني والحكومة المالكية يتعاملان معها بالكثير من المراهقة السياسية واللامبالاة التي قد تعصف بكل شيء، فهذه الحكومة تتحرك تماما على هامش الأزمة ولم تستطع لحد الآن الدخول في عمقها. فالتحركات الحكومية تتمحور في توجهات ثلاث، أكثرها جدية يمكن وصفها بالعبث السياسي.
التوجه الأول يتلخص بالاستفادة من عامل الوقت .... فبدلا من إيجاد الحلول الناجعة لحل الأزمة الراهنة وعلى الرغم من مضي أكثر من شهر على الاعتصامات لا زالت حكومة المالكي والتحالف الوطني يماطلان، ويمارسان سياسية التسويف التي اعتادا على ممارستها مع كل أزمة تواجههما في العملية السياسية منذ بدايتها في 2003 ولحد الآن، محاولةً الاستفادة من عامل الوقت. وإن كانت سياسة الائتلاف الوطني هذه قد أثمرت تجاه القوائم السياسية الأخرى كالعراقية والتحالف الكردستاني في الاستفادة من العامل الزمني لتشديد قبضته على مفاصل الحياة السياسية إلا أن الأمور تختلف هذه المرة. فالخصم في الأزمة الحالية ليس حزبا سياسيا يمكن المساومة معه واستخدام المناورات السياسية والالتفاف السياسي حول بعض النقاط والاتفاق على نقاط أخرى تكون بديلة لها، بل هو شارع منتفض على أوضاع سلبية مضت عليها أكثر من تسع سنوات لم تجد الحكومة حلا لها. هذا الشارع السني خرج بعفوية للمطالبة بحقوقه ومارس الكثير من ضبط النفس والنضوج السياسي لعدم خروج الأوضاع من حد السيطرة، بيد أنه يجب على الائتلاف الوطني إدراك أن العراق محاط بمنطقة تمر بفترة تحولات قوية يفرضها مناخ الربيع العربي الذي يجعل الباب مفتوحا أمام أي تدخلات إقليمية في حال إطالة عمر هذه الأزمة، ولذلك فإن المراهنة على عامل الزمن في حل الأزمة الحالية هو رهان خاسر ولن يكون بالتأكيد في صالح الائتلاف الوطني بل سيدخل البلاد في أزمة أعنف، قد ينتج عنها اقتتال طائفي حقيقي سيدفع الجميع ثمنه بما فيه الأحزاب الشيعية.
التوجه الثاني.. هو شروع الائتلاف الوطني في التفاوض مع بعض الشخصيات السنية الموجودة أصلا في العملية السياسية التي لم تعد تمثل إلا نفسها وبعض المستفيدين منها، وهذا التوجه يعتبر حوارا مع النفس وليس مع الآخر، ولا يعني حلا للمشكلة بقدر ما يشير إلى عدم جدية الائتلاف الوطني في إيجاد الحلول المناسبة للأزمة، وذلك لأن الائتلاف الشيعي يعرف أكثر من غيره أن هذه الشخوص لا تمثل المتظاهرين ومطالبهم، وأن الظروف الحالية قد تجاوزت هذه الوجوه ولم يعد لها أي تأثير على الشارع السني ولا على التظاهرات، وهذا ما يؤكد عليه المعتصمون بقولهم إن أي مباحثات يجب أن تكون مع المعتصمين وفي ساحات (الاعتصامات) وليس مع ساسة وفي قاعات مغلقة لا يتعدى تاثيرها باب القاعات التي تجري فيها هذه الاجتماعات.
التوجه الثالث الخاطئ الذي تتحرك الحكومة فيه هي ممارستها سياسة توزيع الأدوار بين مكونات الائتلاف الوطني. فمحاولات بعض التيارات الشيعية المنضوية تحت اسم الائتلاف الوطني للظهور كتيارات مؤيدة للاعتصامات لا يعني موقفا حقيقيا لهذه التيارات بقدر ما يعني سياسة توزيع الأدوار بينها لتخفيف نقمة الشارع السني على كل الطيف السياسي الشيعي، وذلك بالتضحية ببعض الأحزاب في داخل الائتلاف الشيعي بدل التضحية بسيطرة المكون الشيعي كله على الحكم بشكل عام. فمن الصعب فهم موقف التيار الصدري الذي أبدى في البداية موقفا مناصرا لتظاهرات الشارع السني ثم تردده في تأييدها بمجرد أن ( بعض المتظاهرين) رفعوا شعارات مؤيدة للبعث أو صور لإردوغان، ثم رجع ليؤكد أنه يؤيد بعض مطالب المتظاهرين وليس كلها، وأخيرا حدد بعض النقاط للمتظاهرين للمطالبة بها بدل مطالبهم الأصلية. وهذا يشير بشكل واضح إلى أن الصدريين حاولوا من خلال تأييدهم المشروط هذا توجيه الاعتصامات بشكل يبقي سيطرة المكون الشيعي على الحكم في أي تغير مستقبلي محتمل، وتوجيه التظاهرات الحالية ضد ائتلاف المالكي وحكومته فقط. ولكن توزيع الأدوار هذا إن كان قد انطلى على قائمة العراقية وعلى التحالف الكردستاني في أزمة سحب الثقة عن المالكي فإنه لم ينطلِ على الشارع السني هذه المرة، فقد رحبوا بتأييد الصدريين هذا لكن دون الانجرار وراء شروطهم، وبذلك أثبت المتظاهرون أنهم أكثر وعيا سياسيا من الكثير من الأحزاب والقوائم العراقية. وظهرت سياسة توزيع الأدوار واضحة بعد أن فشل الائتلاف الوطني في توجيه التظاهرات حسب مزاجه السياسي، فأجل الصدريون التظاهرات التي كانوا ينوون القيام بها إلى شهر آذار القادم وبدلها خرجوا بتظاهرات مؤيدة لشيعة باكستان دون تردد ودون أية شروط.
على الائتلاف الوطني استدراك الوضع المتفاقم بسرعة وتلبية طلبات المعتصمين، وبدلا من الحركات الاستعراضية التي يمارسها أعضاؤه في التوجه غير الجاد إلى المتظاهرين عليهم الانهماك في إيجاد حلول جذرية للمشاكل التي خلقوها هم لا غيرهم، والنظر في المطالب الحقة للمتظاهرين دون فرزها والحكم على بعضها بالمقبول وعلى البعض الآخر بالمرفوض، ليس هذا فحسب بل محاولة إجراء عميلة قيصرية ناجحة للوضع السياسي العراقي قبل أن يفوت الأوان، وأتصور أن من أهم الحلول للمشاكل السياسية المتلاحقة هو في تشكيل حكومة إنقاذ وطني تستبعد منها كافة وجوه ائتلاف دولة القانون الذين سئم أغلب الشارع العراقي من رؤيتهم وسماع طروحاتهم السمجة. وعلى الساسة في العراق الارتقاء بمستوى طرحهم السياسي ليكون متناسبا مع نضج الوعي السياسي للشارع العراقي بدلا من محاولاتهم إنزال مستوى هذا الشارع إلى المستوى الضحل للطروحات السياسية التي يتبنونها، فالعراقيون أثبتوا أنهم أوعى بكثير ممن يمثلونهم في العملية السياسية؛ وعلى ذلك فلم يعد هناك معنى لوجود الوجوه السياسية الموجودة حاليا، وإذا لم يكن موضوع حكومة الإنقاذ الوطني يتلاءم مع نبض الشارع العراقي فمن الواجب على كل الكتل السياسية إلغاء العملية السياسية بالكامل وترك الأمر للشارع المنتفض هذا، فهو الأقدر على إيجاد الحلول المناسبة للمتناقضات العراقية.