قبل 30 عاماً كان لبنان دوحة للإبداع الأدبي والغنائي والمسرحي وكان ورشة أو لنقل معهداً تتدفق منه الأفكار الجديدة والحداثية المارقة، وأحياناً الخارقة للناموس التقليدي، كان لبنان مسرح "الصرعات" و"الإيديولوجيات" التي تعرض على خشبته ثم تتسرب من بعد ذلك لبقية أرجاء العالم العربي.
كان لبنان " مصهراً " للأطياف المختلفة والأفكار المتباينة والإيديولوجيات المتنافرة.
كان إلى ذلك قبلة المصطافين يتبردون في طقسه المعتدل ويتذوقون فواكهه الطازجة وينهلون من منابعه الطبيعية الصافية، يجوبون جباله الخضر وشواطئه البكر، لكن الثورة الإيرانية تولت فيما بعد إعادة صياغة لبنان على نحو مغاير لطبيعته المتسامحة والمنفتحة.
لقد وجدت إيران أن لبنان هو "الخاصرة" الضعيفة التي يمكن من خلالها النفاذ وتمرير الأجندة الإيرانية التي تهدف إلى السيطرة وتولي دور الشرطي في المنطقة من خلال توزيع الأدوار عبر كثير من الفروع التي تولت إقامتها في بعض "الخواصر" العربية الضعيفة كما هو الحال مع حوثيي اليمن أو وفاق البحرين أو الاستيلاء على السلطة كما في العراق.
يجرني الحديث عن لبنان انسجاماً مع الكلام الناعم والودود قبل أيام للرئيس اللبناني ميشال سليمان بحق حزب الله في شأن تورطه في الحرب الدائرة في سورية واصطفاف الحزب إلى جانب النظام في مواجهة الثورة الشعبية هناك.
تثبت الأيام ومجرياتها يوماً بعد الآخر أن لبنان الدولة إنما هو رهينة عند حزب الله الذي يسيطر واقعاً على الأمور هناك وأن لا سلطة تعلو على سلطانه وأن رئيس الجمهورية ليس إلا منصباً فخرياً يتولى من خلاله المراسم والاستقبالات الشكلية التي لا تمضي إلى أبعد من ذلك.
والرئيس اللبناني في واقع الأمر ليس إلا موظفاً حزبياً يقبض مرتبه الشهري ومخصصاته المالية من الحزب الذي يقبض على مقدرات وصلاحيات كل السلطات الثلاث بما فيها رئاسة الحكومة والبرلمان.
نحن لا نلقي الكلام على عواهنه إنما نستمده من الواقع الذي نراه وقد فرضه "حزب الله" واقعاً لا يمكن لأي من السلطات الرئاسية أو الحكومية أو البرلمانية تغييره وحتى مع المحاولات الإقليمية التي بذلت لتفكيك هذا الاشتباك إلا أن الأمر بقي على حاله مخولاً لحزب الله التحكم في الشأن اللبناني ورسم الطريق وفق المشتهى الإيراني بما لا يسمح لأي لون آخر أن يزاحم "الزعفران" الفارسي، وها هي الأيام تثبت تباعاً أن قرار الحرب إنما هو بيد الحزب كما أن قرار السلم عنده، فيما يثبت بالمقابل أن الجيش اللبناني ليس إلا كتيبة شرطة داخلية تتولى حراسة الأزقة والشوارع من الجنح والجنايات والحوادث اليومية لكن قرار الحرب بحجة المقاومة ومواجهة العدو الإسرائيلي أو الدخول في معركة تدمير وقتل المدنيين السوريين بحجة مواجهة التكفيريين فإنه قرار سيادي يتجاوز صلاحيات الرئيس اللبناني ويتجاوز مجادلات ومناقشات ممثلي الشعب في البرلمان وإنما هو قرار يتشكل في الضاحية الجنوبية بعد أن تأتي الأوامر العليا من طهران.
ليس جديداً ولا يشكل إضافة أن نقول إن لبنان دولة مستلبة وإنها دولة غير مستقلة وإنها تحكم من خلال الميليشيات العسكرية.
لم يعد لبنان تلك الواحة الدافئة، ولم يعد لبنان ذلك المنبع الذي تنهل منه العواصم العربية تحولاتها، ولم يعد لبنان هو مناط التجديد ومنصة التغيير، لم يعد لبنان مسرحاً للإبداع، وإنما غدا بفضل الميليشيات منصة للاغتيالات والراجمات والصواريخ.
ولعل ما يحدث من تدخل سافر لحزب الله في تولي إدارة المعركة في القصير بالنيابة عن النظام السوري دليل أخير وقد سبقه كثير من الدلالات على أن "الحزب" هو الآمر الناهي في لبنان وأن كل قرار للرئاسة وكل توجه شعبي لا يمر من خلال حزب الله فهو رد.