جمعني نقاش مع أستاذ خبير قدير في تدريب وتعليم الأطباء، لب النقاش هو عزوف طلاب الطب عن حضور المحاضرات، والغياب المتكرر عن البرامج التعليمية من حلقات نقاش وملخصات علمية (سمنارات) وحصص تدريس سريرية، وإن حضروا ففي الأغلب الحضور المتأخر بدون إعداد، والحضور الذي يتلوه نعاس من طول السهر في الليلة السابقة، حضور بدني دون رغبة حقيقية في التعلم، فهم معك بدنيا، وتركيزهم في (تويتر) وعلى (الفيسبوك)، لا مشاركة فعالة، ولا مساءلة للأستاذ، ولا شغب علمي محمود يحاور الأفكار ويتجادل معها، وإنما ما المهم الذي سيأتي في الامتحان؟ تابع الأستاذ الخبير بأبيات أخرى في معلقة معاناته مع طلبته، مسلطا الضوء على جانب آخر مما نتناقش فيه، قال لي: "أنت تعلم أن طلبة الطب هؤلاء هم تقريبا من صفوة الطلاب من التعليم العام؟ وأنت تعلم أن خلف هؤلاء أهل هم في الأغلب مثلنا أو أكثر منا حرصا عليهم، فطلبات طالب الطب عند أبويه أوامر لا تقبل النقاش، وراحته هدف لا جدال فيه، وكل من في البيت هو رهن أمر (الدكتور) أو (الدكتورة) وهم بعد لم يتخرجوا من كلية الطب! بل وأكثر من ذلك فإن هؤلاء الطلاب مدفوع لهم أجرهم مقدما! فأين تجد بلدا يقدم التعليم العالي بالمجان، بل ويدفع لطلابه راتبا شهريا؟! ورغم ذلك تجد هذا العزوف المحير العجيب عن العلم وطلبه من هذا الجيل الغريب"! وكأني بحال هذا الأستاذ يخاطب طلبة الطب وهو يقول لهم: ويحكم ماذا تريدون؟

هذه ظاهرة موجودة، ليست قاصرة على كلية دون أخرى، المشكلة في ظني أكبر عمقا من أن نناقشها فقط من منظور رأسي علوي ومن طرف واحد هو الطرف (الأكثر) خبرة وعلما ألا وهو طرف الأستاذ، وننسى أو نلغي الأطراف الأخرى: طرف الطالب أو طرف المجتمع.

ولو أن طالبا تحدث وأدلى بدلوه - ما زلت أناقش الموضوع من طرف (الأستاذ) بحكم أني عضو هيئة تدريس رغم محاولتي استنطاق أحد الطلاب - فما عساه أن يقول؟: "أتفق أن هذه الظاهرة موجودة، ولكن الأساتذة دائما يلقون باللائمة علينا - معشر الطلاب - وكأننا نحن الأساس في العملية التعليمية، وينسى الأساتذة أن هناك منهجا، ووسائل تعليم، ووسائل تقويم بل وهناك ما هو الأهم: الأستاذ، فهل نغفل الحديث عن كل ذلك ونقول إن الطلاب هم السبب الأوحد في هذا الأمر المخيف؟" خذ مثلا: الأستاذ، هل هو مؤهل أكاديميا أو تربويا لتدريس الطلاب؟ ما زال الأساتذة عندنا يظنون أنهم ما إن يحصلوا على الدكتوراه بعد جهدهم العلمي المضني، وبعد تدريبهم العملي واختباراتهم الطويلة القاسية إلا وقد أصبحوا - في يوم وليلة - الأساتذة المعلمين المتمكنين من وسائل التعليم في قاعة المحاضرات، والمختبرات، وفي الحصص السريرية، بل (خبراء) التقويم بشتى ألوانه وطرقه! هكذا بدون تدريب في مبادئ التدريس أو بدون دراسة ولو مبسطة لأساليب التقويم! ولنا أن نتخيل كيف سيكون وضع الطلاب مع أستاذ يقدم محاضرة مملة، هي مجرد قراءة لشرائح عبارة عن قطع ولزق من الكتاب دون أي جهد في العرض أو النقاش أو التفاعل مع طلابه؟ هل سيحرص الطلاب على الحضور؟ وكيف سيكون وضع الطلاب مع مناهج قديمة، متداخلة، فيها حشو لا يفهمه الطلاب، هل سيتحمس الطلاب للعلم والدراسة؟ وكيف سيكون وضع الطلاب مع أساليب تقويم بالية، وأسئلة لا تنمي إلا القدرة على الحفظ، فيجمع الطالب ما استطاع من معلومات من مذكرات وأسئلة قديمة (ليستفرغها) على ورقة الامتحان وتنتهي علاقته بالعلم والعلماء بعد ذلك!

واستتبع في عرض عدد من الأفكار لقصد إثارة حفيظة القراء، هل يزرع التعليم العام لدى طلبتنا مفهوم العلم والتعلم؟ هل يبني التعليم العام لدى طلبتنا الرغبة في استكشاف الجديد وثقافة الشغف بالعلم والتعطش للمعرفة التي هي من صميم بنائنا الحضاري الثقافي الإسلامي المبنية على مبدأ: "إقرأ وربك الأكرم"؟ هل هناك آلية واضحة لتأهيل من يستحق التأهيل في التعليم العالي؟ أترك موضوع التعليم العام حتى لا أزيد آلامنا ألما وحسرتنا حسرة، وأسلط بعض الضوء عن بعض ما يحيط بطلابنا، الذين أشعر أن بعضهم ربما فكر جديا في أن يترك دراسة الطب كعلم يعد من أشرف العلوم، ليصبح.. مغنيا!! نعم مغنيا، فما يبث من بهرج ولغط وجغط في برامج (الشباب)، برامج المسابقات الغنائية من إتقان وحبكة فنية إعلامية إعلانية يحفز الشاب على أن يغني! وأترك الأبعاد المالية الاستهلاكية خلف هذه البرامج، وأسأل عن حال طلابنا مع وسائط الاتصال الحديثة، هل حققت نصرا جديدا وأضافت شيئا عزيزا كما يهلل مناصروها؟ أضف إلى أن كثيرا من الكتب والدراسات كتبت حول الآثار السلبية لهذه الوسائط، وأن المتعصب والمتطرف لم يزد إلا تعصبا وتطرفا بسبب هذه الوسائط، إذ انتشرت سموم أفكار الطائفية والإقصاء بسبب الضرب على أوتار الفرقة والاختلاف والكراهية، فيتجمع من في قلوبهم مرض سوية وتقع الطيور على أشكالها، ثم من قال إن هذه الوسائل تزيد من "اجتماعية" الإنسان! إنها لا تزيده إلا عزلة عن واقعه وانفصالا، وهيمانا بعالم افتراضي لا واقعي، سلبي لا إيجابي، بل وعلاقات غير صحية، إذ لا تواصل حقيقيا بالمعنى الإنساني يتحقق فيها!

في عرض لكتاب إيطالي طريف يتحدث عن إدمان "الفيسبوك" وعن 101 طريقة لعلاج هذا الإدمان نشرته مجلة الدوحة في عددها الأخير، جاء "أن الوهم هو ما يبيعه لنا "الفيسبوك"، بل هو القوة التي يعطيها لمستخدميه، وهو القنبلة الأقوى في تاريخ الإنسان! وهم أنك مختلف عن الآخرين، ومن ثم أفضل منهم، ووهم أنك لست وحيدا، ووهم أنك مسموع ووهم أن العالم لا يستطيع الاستغناء عنك.. كل ذلك ولا شك طبع أثره في عقول طلابنا، فلا ألومهم إن تلوثت عقولهم! قد يقول قائل كما جرت عادتنا دائما في الرغبة الدائمة لتبسيط كل مشكلة مهما كانت معقدة، وما هو الحل؟ أقول: الحل عندي! لا تكلفوا أنفسكم عناء التفكير! فقط انتظروني حين أفتح حسابا في "تويتر" وأكتب لكم ثلاث تغريدات فقط هي الحل الحاسم في هذه المشكلة المعقدة!