بحكم تخصصي في التنمية البشرية دائما ما أجد نفسي أبحر في عالم المعلومات التي تتحدث في هذا المجال، تخصص لا يهتم فقط بدراسة البيئة من أجل التوصل إلى كل ما يساعد الإنسان في حياته لكي ينمو ويتفاعل ويبدع في إيجاد الطرق التي تساعده على الحياة الكريمة، ولكنه مجال يهتم بتنمية الإنسان من الداخل كما الخارج، وعليه حين شاهدت أحد المقاطع التي تُعرف النفس، وتحث على تقدير واحترام الاختلاف بين البشر، أحببت أن أشارككم، لقد كان السؤال الرئيس أو المحور هو "من أنا؟"، ووجدت أن الرسالة مهمة خاصة بالنسبة لأطفالنا، لأنهم ليسوا بمفردهم على هذه الأرض، ويجب أن يدركوا أن الاختلاف هو نعمة بيد من يستخدمه للبناء لا الهدم، وأن الاختلاف هو التقبل لا الرفض.

أعجبني ولهذا أنقله إليكم اليوم وبالطبع مع إضافات من عندي، نعم تحدثت عن "الأنا" من قبل، وقد أتحدث عن الموضوع ثانية في المستقبل، لأن الموضوع لا يكفيه مقال واحد ولا المعالجة من زاوية واحدة، ففي كل مرة أجد أن ما قلته لم يكن كافيا وأحتاج للتوضيح أكثر، لا أتحدث هنا عن النرجسية، ولكن عن إدراك تواجد التناقضات التي تشكل الفرد والآخرين من حولنا، وكيفية التعامل معها، فحين أقرأ الردود على بعض مقالاتي ومقالات الغير أجد أن الكثير منا يعيش في ضبابية مفهوم الأنا والآخر، وأول ما يسطرونه من ردة فعل تكون سلبية معلنة الرفض والتعالي، وأحيانا كثيرة تحميل اختلاف الآخر نتائج ما يمر علينا من صعاب وتحديات في حياتنا، حتى بتنا نرى البشرية درجات وألوانا ومذاهب، وأن العالم يدور من أجلهم ويجب على الجميع أن يشعر بهم في حين أنهم لا يتفاعلون مع أحد سوى أنفسهم، يتحدث الكاتب عن البقدونس فيسألونه عن الأسمنت، يقدم الحلول فتأتيه الإجابة بلا حياة لمن تنادي، ولكن يا ناس يا بشر هو يناديكم... وأنتم أحياء! يناديكم قبل أن ينادي أي جهة مسؤولة كي تتحركوا وتدركوا أنكم أحياء!

أصبحت حياتنا تدور في فلك كلمات معدودة تدور في المحاور التالية: المرأة، الهيئة، الحجاب، النقاب، قيادة المرأة للسيارة، وأخيرا تشرفنا بموضوع المراقبة والاتصالات! أتحدى أن يضع أي كاتب أيا من هذه الكلمات في عنوان مقاله ولا يجد من يأخذ العنوان ويطير به، وتبدأ أنغام الاعتراض والتهجم وأحيانا للأسف الشتائم، وما أشطرهم بالشماتة حين تقع الكوارث لدى الغير!

لا أعلم إن كان مقالي هذا سيفيد هذه النوعية لأنه حتما لا يحمل العنوان الذي يشدهم للقراءة، ولكن هذا لم يمنعني يوما من أن أكتب وأشارك.. قد يكون طريقي طويلا ولكن نفسي ولله الحمد أطول، وعليه أقدم ما تعلمته وما زلت أتعلمه عن النفس البشرية التي تحدث عنها كبار رجال الفكر والعلم والفلسفة وبقية العلوم الدينية والإنسانية، لا أدعي أني بمستوى أي منهم، ولن أدعي يوما أنني وصلت، وما أطرحه ليس سوى معالجة من وجهة نظر طالبة علم، قد لا أزيد من علمكم، ولكنني بالتأكيد سوف أزيد من علمي، لأنني حين أبحث في أي موضوع..أتعلم، وحين أكتب وتتشكل الكلمات بين يدي أفكارا..أتعلم، فأبتعد قليلا وأعيد النظر، ثم أعيد القراءة من جديد.. لأتعلم.

واليوم تعلمت أنه حينما نريد أن نُعرف بأنفسنا، فلنجرب النظر إليها من هذه الزاوية: أنا لست اسمي، أنا لست وظيفتي أو مهنتي، أنا لست ما أرتدي أو أتجمل به، أنا لست الحي الذي أسكنه ولا المنزل ولا الغرفة التي تحتويني، أنا لست المخاوف التي تعتريني أو الفشل الذي أواجهه، أنا لست الماضي أو المستقبل، أنا لست كما تراني أو تريد أن تراني، أنا لست ما يحتويه الفكر السائد من أوصاف حملت على مدى الأجيال كلمة "رجل" أو "امرأة"، أنا لست من أحب أو يحبني، أنا لست من أكره أو يكرهني، أنا لست فكرة رؤية أو حلما، أنا لست الصوت أو الكلمة.. أنا أبجديات الوجود، أنا ما تراه وما لا تراه، ما أقوله وما لا أقوله، ما أفعله وما لا أفعله، أنا كل "لا" وكل "نعم" من كل ما يحتويه عقلي وروحي من فكر ومن عقل ومن مشاعر ومن شجن، أنا "اليوم"، أنا الأمل، أنا الخيال، وأنا الإبداع والعمل، أوتيت نعما من الحكمة والعقل وأحيانا البصيرة لكي أنمو وأتغير، أغير وأتعلم، أنا كل الناس رجلا، وامرأة وطفلا، أنا القرب وأنا الابتعاد، أنا سيمفونية من الاختلافات، لأنني أحيا لأنني أنبض.. أنمو، في ازدياد ونقصان.. أنمو، أنا التوهج وأنا الظلام، أنا الغزل وأنا الهجاء، أنا الحرف، أنا الكلمة..أنا أبجدية كل اللغات، أنا الروح المقاومة، أنا الصدق وأنا العداء، أنا التعثر وأنا التحديات، أنا الألم، أنا الضياع، أنا الحلم وأنا الغضب.. خلقت لأكون من أنا ولهذا أنا من أنا، أعظم مخلوقات الله، ولن أقبل بأن أكون أقل من.. أنا! هل هذه نرجسية؟ هل هذا تكبر؟ كلا، هذه نظرة للآخر الذي تَشكل وصُنع مثلي من "الأنا"، لا يمكن أن أكون هو، ولا يمكن أن يكون أنا، ولكن لنتذكر أننا خرجنا من مصدر واحد.. من الاختلافات التي تشكل هذه "الأنا".