في الأسبوع الماضي ارتفعت أسعار القمح في الأسواق العالمية بنسبة 70%، نتيجة للحظر الذي فرضته روسيا الاتحادية على تصدير القمح قبل 3 أيام. ولقد جاء هذا الحظر بسبب حرائق الغابات الروسية التي استمرت 45 يوماً، ودمّرت 36% من مساحة المناطق الزراعية، وقضت على 40% من محصول القمح الروسي.
وقبل أسبوعين مني محصول الأرز والمانجو في الباكستان والهند بالخسائر الفادحة جراء الأمطار الموسمية والفياضانات العاتية، التي قضت على 45% من محصول الأرز و60% من محصول المانجو، وأدت إلى مقتل أكثر من 1000 نسمة وتشريد حوالي 15 مليون مواطن. وقد تتخذ الباكستان والهند نفس الخطوات المتشددة التي اتخذتها روسيا الاتحادية، خاصةً أن الأرز يعتبر السلعة الغذائية الوحيدة في العالم التي يذهب 94% من إنتاجها في الاستهلاك المحلي للدول المنتجة لها، ويتم تصدير الباقي الذي لا تزيد نسبته عن 6% من الإنتاج العالمي لهذه السلعة الأساسية.
وفي الماضي ارتفعت أسعار السلع الغذائية نتيجة الحظر الذى فرضته كل من الهند وتايلند والصين على تصدير الأرز قبل عامين بسبب النقص الحاد في مخزونه العالمي، والحظر الذي فرضته أستراليا على تصدير الشعير قبل خمسة أعوام بسبب تدني انتاجه الموسمي نتيجة موجة الجفاف التي أصابت مزارعه، والحظر الذي فرضته الفليبين وإندونيسيا وماليزيا على تصدير زيوت النخيل قبل عشرة أعوام لإجبار المزارعين لديها على تخفيض أسعار هذه السلع في أسواقها المحلية.
أسباب ارتفاع وانخفاض الأسعار العالمية للسلع الزراعية الأساسية، مثل القمح، الشعير، الذرة، السكر، الأرز، الزيوت النباتية، والأعلاف، تختلف إختلافاً كبيراً عن أسباب ارتفاع وانخفاض أسعار السلع الصناعية. فالزراعة لا تتأثر فقط بمستويات العرض والطلب وقدرة المخزون العالمي على تلبية النقص في المعروض، وإنما تتأثر بالدرجة الأولى بالتغير المناخي وعوارضه المفاجئة التي يواجهها العالم أجمع، وتتأثر أيضاً بارتفاع أسعار النفط والشحن والتأمين وأسعار شراء واستئجار الأراضي الزراعية وزيادة وتيرة الآفات الزراعية والحيوانية.
وعلى عكس أحكام الاستثمار الخارجي في الصناعة، التي لا تسمح للدول بحظر تصدير منتجاتها الصناعية طبقاً لأحكام اتفاقية الاستثمار المتعددة الأطراف (تريمز)، فإن قواعد الاستثمار الخارجي في الزراعة تخضع لاتفاقات دولية بالغة التعقيد يفوق عددها 17 اتفاقية، وتمنح كافة الدول الحق المطلق في حصر بيع سلعها الزراعية على سكانها فقط إذا وجدت أن ذلك في مصلحة مواطنيها واقتصادياتها، حتى لو كان المستثمر في زراعتها أجنبياً. بل وللدول المنتجة للغذاء الحق المطلق في حظر تصدير سلعها الغذائية طبقاً للمادة (11- 2- أ) من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات)، التي نصت على أن للدول الزراعية: "الحق في فرض الحظر على الصادرات بقصد منع أو التخفيف من وطأة أوجه النقص الحرج أو الحاد في المواد الغذائية أو المنتجات الأخرى التي تعد ضرورية ولا غنى عنها بالنسبة للمصدرين".
كما أن هذه الإتفاقات الدولية الصارمة ألزمت المستثمرين في الزراعة الخارجية بتطبيق مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية دون تمييز بين الدول في أسعار منتجاتهم لدى بيعها وتسويقها عالمياً. لذا لن يستطع المستثمر في الزراعة الخارجية تخفيض أسعار السلع الزراعية لدى تصديرها إلى بلاده، ورفعها لدى تصديرها إلى الدول الأخرى، حتى إذا وصلت نسبة استثماراته الخارجية بنسبة 100%. وفي حال عدم الالتزام بأحكام هذه المواد القانونية، فإن الدول التي فتحت أراضيها للاستثمار الزراعي الخارجي سوف تتعرض لقضايا خرق المادة (1) من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات)، التي نصت على أن: "التفضيلات والامتيازات والإعفاءات والحصانات الممنوحة من أي دولة لأي منتج منشأه أو جهة أي دولة أخرى، يجب أن تمنح مباشرة ودونما قيد أو شرط للمنتج المماثل الذي منشأه أو جهته أراضي كافة الدول الأخرى".
تحتل الدول الخليجية المرتبة الأولى عالمياً في استيراد الشعير بكميات ضخمة تصل إلى 60% من الإنتاج العالمي القابل للتصدير، وتقع في المرتبة السادسة في استيراد جميع احتياجاتها من الأرز. ويعتبر الوطن العربي من أكثر مناطق العالم اعتماداً على استيراد المواد الغذائية الأساسية، حيث فاقت وارداته من الدول الأجنبية في العام الماضي ما قيمته 53 مليار دولار، لتشكل 19% من قيمة الواردات العربية، مما يؤكد سوء وضع الأمن الغذائي العربي، حيث يتراوح عمق الفجوة الغذائية بين 50% في القمح، و45% في الذرة، و86% في الشعير، و35% في الأرز، و34% في اللحوم والألبان.
الاستثمار الزراعي الخارجي قد لا يحقق طموحات وآمال الأمن الغذائي الوطني، والأجدى بنا البدء فوراً في التركيز على بناء المخزون الاستراتيجي للسلع الغذائية الأساسية في كافة المناطق والمدن والقرى، وعقد الصفقات الآمنة المضمونة لشراء الغذاء من كافة الدول الزراعية، واعتماد تقنيات الري بالتنقيط لزراعة المحاصيل في مناطقنا الزراعية في الشمال والجنوب، وتشجيع القطاع الخاص على تعليب الغذاء وبناء مصانعه وتطوير تقنياته.