بعد نجاح الثورات في عدد من الدول العربية شمال أفريقيا؛ أفرط الناس في التفاؤل وبدأ الكثير يحاول البحث عن أوجه الشبه بين الثورات العربية وتلك الثورات الغربية التي أدت إلى الحرية والحضارة في الغرب. ولكن، وبعد أن تجاوزنا العامين منذ نجاح تلك الثورات؛ ماذا تحقق؟ وإلى أين تسير؟
الثورات هي الملاذ الأخير الذي لا يُفترض أن تلجأ إليه الشعوب إلا إذا لم يكن هناك أمل في الإصلاح، فالحقيقة أن الثورات دائما ما يعقبها الفوضى ومظاهر العصيان المتكرر، كما أنها غالبا تهدم الكثير من الجهود التي بنيت والتي مهما كانت هزيلة إلا أن هدمها في الحقيقة يرجع البلد إلى الوراء سنوات طويلة يصعب تعويضها. وكثيرا ما يعقب تلك الثورات حروب وصراعات قد تكون أسوأ من الحال الذي جاءت من أجل إزالته.
لا شك أن أول من يتحمل نتيجة هذه الفوضى هي تلك الحكومات البائدة، ولكن في أي جهة وضعنا اللوم؛ فإن المتضرر الحقيقي هو البلد والشعب عندما يعيش الفوضى وانعدام الاستقرار والعيش تحت قلق اللا أفق نحو المستقبل. فأغلب تلك الدول لم يكن فيها أحزاب سياسية حقيقية تمتلك الإمكانات التي تؤهلها لقيادة البلد، كما أن البنية الفكرية في المجتمع لم تستوعب بعد معنى المشاركة السياسية، ولم تتفق حتى على الأطر العامة نحو حكم الشعب وآلية ذلك الحكم، وهذه إشكالية كبيرة أدت إلى حالة التنازع والفوضى هناك. حتى تجاوزت الفوضى مؤسسات الدولة إلى مؤسسات القطاع الخاص وحتى المجتمعات القبلية، حيث استمرأ الناس العصيان والفوضى، وتعطلت الكثير من المصالح وبالتالي البلد.
السؤال؛ هل ستؤدي هذه الثورات إلى الحرية الحقيقية والرخاء الذي تسعى له الشعوب؟
أعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يجيب باطمئنان بنعم أو لا، فالهدم والثورة قد تتم في بضعة أيام (كما حصل في مصر خلال 17 يوما)، بينما البناء لدولة حديثة قد يستغرق عدة عقود!
لست مطمئنا أن من يقود تلك البلدان - خصوصا في مصر - يدرك معنى وأهمية استقرار الوطن بشكل جاد، فضلا عن عدم امتلاكه لمشروع يؤهله لخروج البلد من مآزقه السياسية والاقتصادية والثقافية، فكل طرف يحاول استباق الزمن في تسريب أجندته بأسرع وقت، ولم يقدروا أن مصلحة الوطن في الحكمة والتروي، وأن الأمور لا تؤحذ بهذا الشكل!
يجب أن تمر الثورات بمراحل تتطور معها الدولة لتصل إلى الدولة الحديثة، وتطرح مشروعا ينقلها من العالم المستهلك والكسول إلى الدول الرائدة والمتصدرة، ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال بنية مجتمعية متماسكة مع تعاون وثقة بين الشعب وحكوماته، وهذا يحتاج إلى الكثير من الوقت أمام تلك الدول.
توجد لدى جميع التيارات هناك أجندات خاصة، ولكن هل تصلح تلك الأجندات لتكون مشروعا للحل ومنهجا للتغيير إلى الأفضل؟
الحقيقة طالما أن جميع تلك الأحزاب ليس لديها ممارسة حقيقية سابقة، فلا يمكن أن نجزم بشيء! ففي الحقيقة أنها الآن تمارس التجارب الميدانية لتتعلم، وهذا قطعا سيكلف البلد والشعب الكثير. ولو أردنا أن نقارن بين التجربة التركية والثورات العربية فإن البون شاسع بالتأكيد؛ فالتجربة التركية لم تأت من طريق هدم كل مؤسسات الدولة! كما إنها حاولت في كل خطوة تخطوها بالتدرج أن تهدئ من خصومها وتطمنهم، بعكس مظاهر التحدي والاستفزاز التي نراها في دول الثورات.
هذه المظاهر بلاشك تكشف جزءا من الأعراض التي تعاني منها الساحة هناك، هذا العَرَض هو نقص الخبرة والكفاءة، حيث انتقلت الكفاءة إلى كفاءة الولاء والانتماء بدلا من الكفاءة الحقيقية التي يحتاجها البلد. وللأسف أن الكثير من السياسيين يقدم مصالحه أو مصالح حزبه الانتخابية على حساب الوطن، مع أنه للأمانة فقد وقف الكثير بشجاعة إلا أنه لا حياة لمن تنادي.
الكثير متخوف من بعض تلك الحكومات الجديدة من أنها قد ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته تلك الحكومات البائدة فتسرق الثورة وتحمي نفسها فقط، والأخطر هو ممارسة بعضها سلطة الدين لحماية نفسها، وقد كان الأجدى بها أن تحمي الدين بأن تنأى بأخطائها عنه وليس العكس. وهذه الممارسات سيكون لها ردود فعل هائلة في المستقبل إن لم يتدارك الأمر، وسيحمل الدين كل تبعات أخطائهم التي ينكرها حتى الكثير من الإسلاميين.
أعود للجواب عن مدى جدوى هذه الثورات؛ فإن أهم معيار لنجاحها هو النتائج، وإذا نظرنا إلى أوضاع تلك البلدان فإن الكثير من المخاوف تشير للخطر؛ فالتقسيم يحيق ببعضها، والمظاهر المسلحة والعصيان أيضا، وبعضها معرضة لأن تدخل في حرب أو مغامرة في أي لحظة، وهكذا من التصورات المحتملة. فإذا وقع لا سمح الله أي من هذه التصورات فإن الحقيقة أن تلك الثورات فشلت في تحقيق أهدافها بلا شك، وضاعت كل تلك الدماء سدى.
إن قادة الحكومات في تلك الدول يجب أن يعيدوا التفكير مرارا بأن عقلية الاستبداد بالرأي يجب أن تزول، وأن يجنحوا إلى المشاركة والاتفاق، خصوصا في هذه المرحلة الحساسة التي قد يبنى عليها تاريخ المستقبل.
يجب عليهم أن يدركوا حجم الأمانة والمسؤولية الملقاة أمامهم، وأن يضحوا بمصالحهم لأجل الوطن، وأن يأخذوا الناس بالحكمة والأناة، كما عليهم الإدراك بأن حكومات ما بعد الثورات يجب أن تكون مجرد حكومات انتقالية تؤسس للدولة الحديثة، وليس حكومات مستبدة تمارس نفس ممارسات تلك البائدة.