يحمل تعبير العالم الثالث معنى متضمنا وجود مجموعة عوالم، تعدادها في أقل تقدير ثلاثة عوالم، طالما أن ليس هناك في القاموس السياسي تسمية لعالم رابع. ومنطقيا فإن ترتيب الثالث، يحمل أرجحية وثقلا ماديا ومعنويا لما قبله من العوالم. بمعنى آخر، يقتضي هذا التصنيف اختلافا في درجة النمو والتطور الاجتماعي، وشكل الأنظمة السياسية والاقتصادية بين العوالم الثلاثة.

حمل التصنيف أيضا نوازع عرقية، وتمييزا بين الشمال والجنوب والغنى والفقر. فالتفوق، وفقا للمركزية الأوروبية، كما عبرت عنها النازية الهتلرية، في أقسى الصور الكاريكاتورية هو للجنس الآري. ومن أجل تثبيت مقولات زائفة كهذه، جرى حرف التجربة العلمية عن وظائفها الرئيسية. فقيل عن جينات متطورة للجنس الأبيض وأخرى متخلفة للجنس الملون والأسود. وقيل أيضا عن ثقافات وأديان مختلفة، يحرض بعضها على الكد والعمل وتنشيط الفكر والإبداع، والطموح، والترويج لثقافة التسامح، أما البعض الآخر فإنه معوق للحضارة والنهضة، وثقافته ومعتقداته بيئة ملائمة للخمول والكسل والأوهام والخرافة والجهل.

هذه التصنيفات هي الأرضية التي انطلق منها المشروع الاستعماري لاحتلال ما عرف لاحقا بالعالم الثالث، تحت مبرر أن البقاء للأصلح، أحيانا، وبمعايير أخرى، تحت عناوين أخلاقية، مثل الأخذ بيد المجتمعات المتخلفة إلى "حظيرة" التقدم والتطور.

سياسيا استخدم مدلول العالم الثالث، في صيغته المعاصرة، للقول بوجود عالم لا ينتمي لأي من الكتلتين المتصارعتين أثناء الحرب الباردة. بمعنى أنه ليس رأسماليا وليس اشتراكيا، رغم وجود جدل له مقوماته المنطقية والموضوعية، بأن العالم الثالث هو في حقيقته وفي بناه الاقتصادي امتداد للمنظومتين الغربية والشرقية.

في ظل الأحادية القطبية انتفى وجود قطبين عالميين، وغدا الموجود قطب أوحد، هو النظام الرأسمالي، يحكم الغرب والشرق على السواء، ومع ذلك بقي توصيف العالم الثالث قائما كما كان في السابق، ومبرر بقائه الوحيد هو التمييز بين الجنوب والشمال، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة. واستمراره بهذا المعنى هو تكريس للتصنيفات العرقية والدينية التي أشرنا لها في مطلع هذا الحديث. واقع الحال أن ما تبقى من عوالم قد اختزل في عالمين: الأول والأخير. أما العالم الثاني، عالم الكتلة الاشتراكية فقد انتهى مع سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم.

في ظل الثنائية القطبية، تمكنت دول العالم الثالث من المناورة بين قطبين تبعا لمصالحها الوطنية. ومع الاستقطاب الحاد، من قبل أحد المعسكرين لكسب ود دول العالم الثالث، فإن بعضا من حرية الاختيار كان متاحا للالتحاق بأحد المعسكرين. وقد أسهم ذلك في ترصين السياسات الدولية، وتنشيط المنظمات الأممية، وفي مقدمتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، التي غدا منبرها وتوصياتها، لما يربو على أربعة عقود حكرا على دول العالم الثالث.

وكانت الدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة تحرص على خلق نماذج باهرة في بعض دول العالم الثالث، والنمور الآسيوية مثل حي على ذلك، كما هي هونج كونج وجزيرة فرموزا، وذلك بهدف إقناع بقية شعوب العالم بمزايا النظام الرأسمالي، وحيويته، وقدرته على تحقيق الرخاء الاقتصادي.

وبالمثل، كانت قدرة أي من المعسكرين على حسم الحروب لصالحها محدودة جدا. فسلاح الرعب النووي الموجود في ترسانة المعسكرين حجب عنهما الدخول في حروب مدمرة مع بعضهما البعض، فكان أن تمت الاستعاضة عن ذلك بالحروب بالوكالة. وكانت الحرب الكورية أول تلك الحروب، لتتبعها حروب أميركا في الهند الصينية، في فيتنام ولاوس وكمبوديا، فحرب السوفيت في أفغانستان.

في حروب كهذه، لا تتمكن الدول الكبرى من تحقيق أهدافها، بل الأقرب أن تنتهي الحروب بهزيمتها، كما حدث لفرنسا والولايات المتحدة بكوريا والهند الصينية، وأيضا كما حدث للاتحاد السوفيتي بعد غزوه لأفغانستان، مناصرا للنظام الشيوعي القائم آنذاك في تلك البلاد.

سقوط الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي جعل من الولايات المتحدة إمبراطورا متوجا، من غير منازع على سائر أرجاء كوكبنا الأرضي. لم تعد هناك حاجة لخشية سلاح الرعب النووي، فالشرق أغمد سيفه، ولم تعد لقوته أنياب. والغرب لم يعد يخشى أحدا، ليحول بينه وبين استخدامه لليورانيوم غير المنضب. ولم تكن على وجه الأرض قوة، تحول بينه وبين احتلال العراق وأفغانستان. وكانت العربدة الإسرائيلية على أشدها، حيث لا مسؤولية ولا رقابة ولا عقاب. وكان تفرد الولايات المتحدة بصناعة القرار الأممي، وعدم تجرؤ أي من الدول الكبرى على استخدام حق النقض أثناء حقبة الأحادية القطبية، قد جعل القرارات الدولية رهينة، بيد قطب أوحد.

عودة الثنائية القطبية مجددا لن تكون استنساخا لحقبة الحرب الباردة. فالتنافس سوف تتداخل فيه مفاهيم الشراكة. وهو ما يصرح به المسؤولون الأميركان والروس على السواء. والولايات المتحدة الأميركية ستبقى على الأقل خلال عقد من الزمن، القطب الرئيسي في عالم متعدد الأقطاب، كما أشار إلى ذلك الكاتب الأميركي الشهير، صامويل هانتجتون، لكن هذه الحقبة لن تستمر طويلا، فالقانون التاريخي منذ نشأ اجتماع البشر وتأسست الإمبراطوريات هو الصراع والتنافس، وليس الشراكة والتكاتف.

المؤكد أن التعددية القطبية الجديدة لن تحمل أبعادا إيديولوجية، وسوف تكون البراغماتية، بديلا عن الدوغمائية. سيتصدر قانون المنفعة كل الشعارات. وستسود ثقافة السوق عالم المستقبل إلى مدى غير منظور حتى هذه اللحظة. وما دام قانون السوق هو الحاكم فإن ذلك سيضيق دائرة الرقابة ومنع استيراد التكنولوجيا للبلدان النامية، بما يوسع فرص دول العالم الثالث، من الدخول بقوة في هذا العصر.

والحال هذا سوف ينسحب على القضايا السياسية، حيث سيتاح للمظلومين إيجاد ظهير لهم ضمن دول العالم المتقدم، بما يخدم قضايا الحرية وحق تقرير المصير، لكن حروب الوكالة سوف تعاود حضورها بقوة، لأنها ملجأ الكبار الوحيد، لفرض سياساتهم واستراتيجياتهم، بما يستدعي تقوية القدرات الذاتية لبلدان العالم الثالث للدفاع عن استقلال بلدانهم، والتصدي لمختلف أشكال العدوان. وتبقى محاور كثيرة أخرى، جديرة بالقراءة والتحليل في أحاديث قادمة بإذن الله.