إذن.. حتى تلك المطاعم الفخمة الفارهة ذات الأثاث الأنيق والإضاءة المبهرة، وذات الأسماء التجارية التي ربما تشاهدها في شوارع لندن ودبي وباريس شملتها الحملات التفتيشية الصارمة التي قامت بها أمانة منطقة الرياض خلال أسبوعين. إذن الأمر ليس عبارة عن خطأ تم اكتشافه في مطعم أو أن عاملا في أحد تلك المطاعم لم يلتزم ذلك اليوم ببعض إجراءات النظافة والسلامة المتبعة، على الإطلاق.. القضية باتت تمثل واقعا حقيقيا لكثير من المطاعم، ليس في الرياض وحدها، بل في مختلف مناطق المملكة، من خلال معادلة تقوم على التالي: المال الأقل، والجهد الأقل، من أجل الحصول على الدخل الأعلى.
فعلا ما الذي يدفع مسؤولا في مطعم من المطاعم ليشتري أدوات ومواد ذات جودة عالية وبسعر أعلى، بينما هو يستطيع توفير بديل لها وبقيمة أقل، وفي ذات الوقت يحصل على الدخل الأعلى؟ لا يكاد هذا الحال يزدهر كما يزدهر لدينا في المملكة. من الذي يقول إن ثقافتنا الاستهلاكية تتوقف عند حدود أجهزة الآيفون وجوالات الجالكسي؟.. ليتها كذلك، إنها تتجاوز العادي إلى غير العادي، إلى واقع استهلاكي شرس ومتهور ومندفع.
لا يظن أحد أن كون هذا المجتمع استهلاكيا يعني اعتذارا للجهات الرقابية، أو توزيعا للمسؤوليات بينها وبين المجتمع.. على الإطلاق، بل إن الواقع الاستهلاكي يؤكد أن الدور الرقابي هنا يصبح أكثر أهمية ومحورية، وأن كل ما يحدث يؤكد أن من غير الممكن ترك هذا المجتمع لنفسه أو الانتظار ريثما يكتسب وعيا جديدا.. هنا يتحقق معنى الأمانة والمسؤولية. هل سيصف أحد هذا الكلام بأنه تشكيك في أهلية ووعي المجتمع؟ فليكن، على الأقل فيما يتعلق بالجوانب الاستهلاكية.
يتفاجأ الناس غالبا بمثل هذه الحملات، وبما ينتج عنها من أحداث ومن إجراءات.. هذا ليس ذنبهم، الذنب يقع أولا على أن كثيرا من الجهات باتت تقدم أعمالها على هيئة حملة عابرة موسمية.. هنا يقع أحد أبرز الأخطاء التعبيرية الإعلامية التي تقع فيها بعض الجهات، لأن تسمية الحملة تطرح هذا المعنى العابر والموقت، ولا تطرح معنى الاستمرار والمؤسساتية، بينما تلك المؤسسات قائمة كل يوم، إلا أن عملها بات في أذهان الناس عبارة عن حملات عابرة.. هنا حاجة ماسة للمعالجة ولتقديم تلك الإجراءات للجمهور على أنها هي الواقع الوظيفي اليومي، وهي المهام الدائمة والطبيعية، بل وبذات الحدة والكثافة التي يشاهدها الناس في الحملات.. هكذا حين يتم طمس فكرة الحملة من أذهان الجمهور يتسع نطاق الثقة بينهم وبين تلك الجهات الحكومية التي تقدم خدماتها لحمايتهم.
بعض المطاعم التي تم إغلاقها عادت لتزاول أعمالها من جديد!! هذا أمر يدعو للاستغراب، لكن المشكلة لا تكمن في الإجراء بقدر ما تكمن في طريقة تقديمه للجمهور. الذي يحدث أنه بعد اكتشاف المخالفة يتم إغلاق المطعم وتعليق ملصق بارز على المدخل يقول بذلك.. الناس تتناقل فكرة الإغلاق بما فيها من قوة وحسم وحدة.. فكرة الإغلاق مرتبطة بالقطع والإقفال النهائي وعدم العودة، بينما الواقع أن الإغلاق يرتبط بوقوع مخالفة وينتهي بمجرد رفعها والتخلص منها، فالغرض هو إنهاء المخالفة وليس الإقفال النهائي للمطعم، لكن الخيط المفقود هو في الإجراءات المتبعة بعد ذلك، ففكرة إعادة افتتاح المطعم الذي تم (إغلاقه) نتيجة (الحملة) تمنح انطباعا شعبيا عاما بعدم الجدية وعدم الصرامة.. هل يمكن البحث عن بدائل أخرى؟ مثلا: المطعم الذي يتم إقفاله يفرض عليه بعد إعادة الافتتاح إبقاء لوحة تحمل تاريخ الإغلاق ونوع المخالفة وتاريخ الافتتاح ورقم الإبلاغ عن المخالفات. المطاعم لن تقبل هذا بالتأكيد، لكن وجود تصنيف للمخالفات وإنزال هذا الإجراء على المخالفات الكبرى والصارخة يمكن أن يكون إجراء مناسبا ومؤثرا للغاية في الجماهير، بل إنه يمنحهم نوعا من الشراكة مع الجهة المسؤولة. يمكن الاستعانة أيضا بدليل أسبوعي للمطاعم الأكثر تميزا والتزاما بشروط النظافة والصحة.
إن حالة من الامتنان والرضا الحقيقي كانت هي ردة الفعل الشعبية الأبرز أمام ما تقوم به الأمانة من حملات تفتيشية على المطاعم وما ينجم عنها من إجراءات، خاصة أنها تمنح كثيرا من الطمأنينة والثقة والثناء. هذا واقع يجب اعتماده وترسيخه، لا كحملة، ولكن كواقع مستمر. تستحق الأمانة الآن كل ثناء وتأييد، خاصة أن الشارع دائما ينتظر أكثر.