لو اجتمعت كافة مصانع قطع الغيار في عالمنا العربي لما تساوت حجماً وإنتاجاً ودخلاً مع مصنع واحد مماثل في اليابان أو ألمانيا، ولما شكلت أكثر من 4% من عدد المصانع المماثلة في تايلاند أو كوريا الجنوبية.

الدول الصناعية الناشئة التي تشكل 48% من اقتصاد العالم، تعتبر اليوم من أكبر دول العالم إنفاقاً على صناعة قطع الغيار، ولكنها في المقابل تعتبر من أكثر الدول إنتاجاً وتصديراً لمعظم فئاتها. بينما المجموعة العربية، التي تحتوي على 40% من ثروات العالم وتشكل أكثر الدول استخداماً لمعدات التنقيب وحفر الآبار وتصنيع البتروكيماويات وتحليةً المياه المالحة وتوليد الكهرباء، ما زالت مستمرة في استيراد معظم احتياجاتها، لأنها من أقل دول العالم إنتاجاً لمكوناتها وأكثرها اعتماداً على الغير في تصنيع قطع غيارها واستيراد معداتها وصيانتها.

بعد خروجها من الركود الاقتصادي الآسيوي في أواخر التسعينات، أصدرت حكومة تايلاند أنظمتها الصارمة والهادفة لتوظيف مليوني عامل فني في صناعة قطع غيار السيارات. بين ليلة وضحاها أصبحت هذه الدولة، المعروفة بإنتاج الأرز فقط، ثاني أكبر منتج لقطع غيار الشاحنات الصغيرة في العالم بعد أميركا، وثالث أكبر مُصَدِّرٍ لها في كافة أسواق العالم. ولضمان نجاح أهدافها، قامت تايلاند باحترام مبدأ اقتصاد السوق وحرية التجارة وابتعدت عن تطبيق السياسات الحمائية المشوهة لصناعتها، مما شَجَّعَ رؤوس الأموال على التدافع للاستثمار في إنشاء 3 مجمعات صناعية متقدمة فيها، تحتوي على 15 مصنعا للسيارات، و5 مصانع للدراجات النارية، و800 مصنع لإنتاج قطع الغيار. شارك في تكوين هذه المجمعات 78 شركة تايلاندية و354 شركة عالمية، لا تقل حصة الشركات اليابانية فيها عن 80%، تليها الشركات الأميركية بنسبة 12% والأوروبية بنسبة 8%. وأصبحت تايلاند في عقد من الزمن معقلاً لصناعة أكثر من 55% من قطع غيار السيارات، و100% من قطع غيار الدراجات النارية في المجموعة الآسيوية، وتم تصنيف منتجاتها في العام الماضي كأفضل أنواع قطع الغيار في الدول النامية بشهادة منظمة المواصفات والمقاييس الدولية.

أما كوريا الجنوبية التي تفتقر إلى المواد الأولية من نفط وغاز، فلقد سارعت في عام 1980 إلى إصدار أنظمتها الهادفة لتوطين صناعة قوالب المولدات والمعدات والسيارات والشاحنات والسفن. وفتحت كوريا أبواب معاهدها الفنية والتقنية على مصراعيها لتدريب مواطنيها وتهيئتهم للعمل في مصانعها، فازدادت ثقة المستثمرين في أسواقها وأنظمتها. اليوم، أصبح لدى كوريا الجنوبية 760 مصنعاً للقوالب صغيرة الحجم، و210 متوسط الحجم، و32 مصنعاً كبير الحجم، وارتفعت حصص الشركات اليابانية فيها إلى 12%، تلتها تايوان بنسبة 9% وسنغافورة بنسبة 7%. كما أصبحت الصين من أكبر مستوردي قوالب كوريا الجنوبية بنسبة 33%، تليها أميركا بنسبة 26% واليابان بنسبة 15% ثم تايوان وسنغافورة بنسبة 11%.

وكما تتلهف قلوب ملايين الشعوب العربية كل عام لزيارة المعارض المحلية والدولية لمشاهدة واقتناء أفخم وأغلى السيارات الحديثة، تتلهف عقول وسواعد أكثر من نصف مليون صناعي سويسري كل عام لابتكار آلاف الأجزاء والمكونات لهذه السيارات باستخدام أحدث المعدات الصناعية وأفضل التقنيات المتطوّرة، لذا تشكل قطع الغيار السويسرية نسبة تفوق 27% في السيارات الألمانية الراقية، و17% في السيارات الفرنسية، و14% في السيارات البريطانية والإيطالية. ولا تقف المصانع السويسرية في طليعة مبتكري قطع الغيار فقط، بل استفادت من أنظمتها الوطنية لإنتاج الهياكل المعدنية الأقلّ وزناً والإلكترونيات المعقدة الأكثر دقةً، واشتهرت بتصنيع مكونات الأجهزة الطبية والساعات ومعدات صناعة النسيج والورق والجلود.

في عالمنا العربي تواجه الصناعة الوطنية معضلةً مزمنةً لعدم احترامنا لأنظمتنا الوطنية المميزة، مما أدى إلى إخفاقنا في تعظيم ثقة المستثمرين بقدرات أسواقنا الناشئة، وابتعادنا عن أفضل أساليب الترويج لمشترياتنا الحكومية وتراجع نتائج جدواها الاقتصادية، إلى جانب ضعف ثقافتنا في إقناع الشركات العالمية بضرورة شرائها كشرط أساسي لفوزها بمشاريعنا الكبرى.

في الأسبوع الماضي صدر مؤشّر "ديلويت" العالمي للقدرة التنافسية الصناعية، حيث حلت الإمارات في المرتبة 30 ، والسعودية في المرتبة 34 ، تلتها مصر في المركز 36، وذلك ضمن لائحة الدول الأفضل عالميا في التنافس على توطين الصناعة، مما يؤكد توقعات النمو في المنطقة الخليجية التي تشكل سوقاً ناشئةً وواعدة. واعتبر التقرير أن هذه الدول قد تتصدر العالم في قدراتها التنافسية فيما لو أحسنت استغلال اليد الوطنية العاملة المختصة والموهوبة، وأطلقت العنان لتنفيذ أنظمتها التجارية والمالية والضريبية المميزة.

تصوروا مكانة صناعتنا الوطنية لو أحسنا تنفيذ نظام المنافسات والمشتريات الحكومية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م 58 في 4/9/1427 ، والذي منح الأولوية للمنتجات الوطنية وتفضيلها على الأجنبية، كما ورد في المادة 5 والمادة 69. وتصوروا لو أحسنا تنفيذ الاستثناء القانوني لمشترياتنا الحكومية من المنافسة الأجنبية، كما حصلنا عليه في مفاوضاتنا الشاقة مع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وإقناعهم بشق الأنفس بتدوين موافقتهم في الفقرة 231 من وثائق عضويتنا، بل تصوروا لو احترمنا نظام هيئة المواصفات والمقاييس الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/10 وتاريخ 3/3/1392 والقاضي بإلزامية استخدام المواصفات السعودية الواردة في المادة 5، وضرورة تقيد الوزارات والدوائر المستقلة والمؤسسات الحكومية بالمواصفات القياسية الوطنية في مشترياتها وجميع أعمالها كما جاء في المادة 6.. ازدهار صناعتنا لا يتحقق إلا باحترام أنظمتنا.