تداول الإعلام منذ فترة وجيزة اعتراف نائب وزير التربية والتعليم الدكتور خالد السبتي بالهدر الهائل في الكتب الدراسية، وكانت هيئة مكافحة الفساد قد دعت الوزارة لضبط احتياجاتها من هذه الكتب. ووجه معاليه بتشكيل لجان في المناطق لمتابعة مصدر الخلل، وإن كان قد جير معاليه أسباب الهدر لإدارات المدارس.

معالي النائب: اعترافكم بالهدر في الكتب كان شجاعة وكان محل التقدير، كون الهدر ضياعا لموارد الدولة، وتبديدا لثرواتها. هدر الكتب يعني هدر ملايين الريالات. واعترافكم هو دليل حرصكم على معالجة مواطن الخلل، وإن كان إظهار الهدر كمشكلة في كل صورها هو من واجبات الجميع بلا استثناء. بالفعل هو تحد كبير لكنه ليس بالمستحيل.

لكن المؤلم هنا أن ثقافة الهدر لم تلتهم ملايين الكتب فحسب، بل امتدت إلى أكثر من ذلك بكثير. ثقافة الهدر لم تبدأ بشعار الوزارة الذي كلف عشرات الملايين، بل امتدت إلى المباني التي سلمت لمقاولين غير جديرين.. ضربوا بمواصفات البناء الجيد عرض الحائط واستغلوا عدم وجود رقابة قوية عليهم، فسلمت مئات المباني بعيوب إنشائية ما زالت المدارس تدور في رحى صيانتها إلى يومنا هذا.

وهل من المنطق أن يكلف المبنى الواحد من 9 إلى 12 مليون ريال ولا تمر عليه أشهر إلا وهو يحتاج إلى إصلاحات عديدة وصيانة مستمرة؟ مبنى ينهار سقفه، وآخر ظلت الطالبات فيه يشربن لسنوات من مياه ملوثة! كارثة بيئية في مدارس يقال إنها داعمة للصحة! والجميع مسؤول أمام الله عن هذه الكارثة.. نسأل الله العلي القدير ألا تمتد تداعياتها إلى صحة أبنائنا. وسؤال لا بد أن يطرح، لأن هذا مكانه: لماذا يا معالي النائب لم تكن هذه العيوب في مدارسنا التي أنشئت منذ أكثر من 30 و20 عاما وما زالت بنفس جودتها مع التقادم؟! لماذا من عشرات السنين كانت تقاريرنا أفضل ومعدلات البذل أكبر والمشاريع أجود؟! والآن أصبحنا نخصص جل وقتنا في وضع الحلول لمواجهة ما نتج من إهمال في ترك باب الهدر مفتوحا على مصراعيه. وبمصطلح اقتصادي أصبحنا ندفع ثمن (تكلفة اللاجودة)!

بوضوح أكثر.. يبدو أن الذمة والأمانة في علاقة عكسية مع الزمن، وأن الفساد في علاقة طردية معه. والغريب سيدي أن توجه الوزارة بمنع صرف أي مبالغ من الميزانيات في حفلات التكريم، والمسؤولون نراهم في صفحات الجرائد على الولائم وبصحبة الدروع وشهادات التكريم في الحفلات التي تعقد في فنادق "الخمس نجوم"! تحت أي بند صرفت هذه المبالغ؟

أعيدوا النظر يا معالي النائب في هذه الملايين المهدرة، وأعيدوا النظر وشددوا الرقابة على آلية صرف البدلات والمكافآت التي تصرف لمسؤولين وموظفين قد لا يغادرون مكاتبهم شهورا طويلة.

قننوا الاجتماعات واللقاءات واكتفوا منها بالتي تثري الموظف وتعود عليه وعلى مهام عمله بالفائدة. خصوصا أنها تكلف الخزينة بدلات ورحلات عمل وغيرها من النفقات التي لا عائد ملموسا من ورائها.

الهدر لم يتوقف هنا، بل كان للعنصر البشري نصيب الأسد منه، فعندما يهدر الإنسان فكرا وجهدا وكيانا وإرادة، فهذا هو أقسى أنواع الهدر. وإذا أضعنا الأصل، الذي هو الفرد، فمعنى ذلك أننا أهدرنا قيمته ومكتسباته.. هدر الموظف عندما يبقى سنوات ولم يقدم له التدريب الكافي، أو كان التدريب والدورات لأشخاص لا تتغير أسماؤهم.. رأينا الهدر في الفجوة بين المعلم كقيمة وقدوة وبين الطالب الذي غيب عنه التعامل مع المعلم ضمن هذا الإطار.

يهدر العنصر البشري عندما تمارس عليه الأوامر من المديرين التنفيذيين، وعليه فقط السمع والطاعة.. عندما يسد الطريق أمام نجاحاته وإبداعاته وإنجازاته ويتحول فقط إلى أداة للتنفيذ.

ومن منطلق الشفافية، سيدي، أن ندرك أن تحطيم الإنسان هو أسوأ أنواع الهدر. حينما لا يعترف بالطاقات، وتهمش الكفاءات ولا يحتفى بالمجتهد ولا يكرم. بل كان الخذلان والإقصاء والإحباط هو المشهد الحاضر. لأن بناء الإنسان والاستثمار فيه ثقافة شبه مفقودة ولا يمكن أن نتجاوزها دون أن نقولب أعمالنا بالعدل والمساواة. وإذا أردتم تعزيز المواطنة والانتماء والتي هي من أسمى سياسات التعليم، فأعيدوا النظر إلى الفرد كغاية لا مجرد وسيلة. اطلع يا معالي النائب على أسباب تزايد الإجازات المرضية والتقارير الطبية والتي ترتفع معدلاتها سنويا، لتدرك أن عدم الرغبة في العمل والإحباط وضغوط العمل لا تعزز الانتماء للعمل، بل تقضي عليه. يقول أحد المهتمين في هذا الشأن: "الهدر يتوالد، وكل مهدور سيهدر غيره.. لأن من تعرض كيانه للتهديم لا يمكن أن يبني..".

معالي النائب..

الهدر باتت وتيرته في تصاعد مخيف، وأصبح مرتعا خصبا للفساد. وهنا أنادي الوزارة بإحداث هيئة رقابة تحاسب المسؤول عن المال المهدر وتطبق القانون بلا رأفة على كل متلاعب بالمال العام. وسنقضي من خلالها على ثالوث الهدر الذي استفحل كالداء في الجسد "الفساد الإداري، ضعف الرقابة وغيابها، المصالح الشخصية". حينها سنعالج المعضلة من جذورها، بإذن الله.