بالتأكيد لا أذيع سرًا حينما أتحدث عن دعم هائل ومباركة أميركية تلقتها جماعة "الإخوان المسلمين" منذ الأيام الأولى للثورة التي أطاحت بالرئيس السابق مبارك ونظامه، وقد أفصح لي شخصيًا الدكتور سعد الدين إبراهيم وأيضاً من خلال أحاديثه عبر الشاشات الفضائية هذه الاتصالات التي بدأت بين الجماعة وواشنطن منذ أعوام، أن الرجل تكفل بفتح قنوات الاتصال لأسباب شتى، لعل أبرزها النكاية بنظام مبارك الذي لفق لأستاذ الاجتماع السياسي تهمة مختلقة سُجن على إثرها وتعرض لمعاملة قاسية تسببت بانهيار حالته الصحية، وهو الشيخ المريض أساسًا، لكنه ظل موضع تقدير الإدارات الأميركية المتعاقبة، تستمع لرؤيته وتحليله للأمور ليس في مصر فحسب، بل بالمنطقة عمومًا.

يحمل إبراهيم الجنسيتين المصرية والأميركية، واشتهر بعلاقاته الوثيقة مع صنّاع القرار بواشنطن، ليس من باب العمالة كما يهاجمه خصومه، بل لثقتهم بقدراته على رصد الواقع السياسي والاجتماعي بعين الخبير المحنك، وصاحب التجارب السياسية المتراكمة منذ شبابه الباكر حين كان يدرس الدكتوراه بالولايات المتحدة، وظلت صلته بالأنظمة المتعاقبة على حكم مصر "قلقة"، حتى وصلت لحد نزع جنسيته المصرية، لكنه استعادها، ثم نكّل به مبارك لأسباب لم يفصح عنها الرجل صراحةً حتى الآن مما فتح أبوابًا للتكهنات حول لغز تحول علاقة إبراهيم ومبارك للأسوأ بعد تقاربهما سنوات.

كان التقرير الأخير الذي أصدره "معهد المجلس الأطلسي ـ الأميركي" بواشنطن المدخل لمناقشتي معه، فسألته عما يتردد عن وساطة جديدة قام بها بين الإدارة الأميركية وأحزاب سلفية مصرية فرد بالإيجاب مؤكدًا أنه فعلها بناء على طلب السلفيين، وزادني من الشعر بيتًا بقوله إن واشنطن استقبلت وفدًا منهم في إبريل الماضي رغم تاريخ العداء لهؤلاء الزوار مع واشنطن، لكن الأجواء السياسية المضطربة بمصر ربما كانت سر تغيير رؤيتهم، وكان هدف زيارة وفد قادة "حزب النور" هو "إطلاع المسؤولين الأميركيين على رؤية الحزب، وتغيير الصورة النمطية عن أفكار الدعوة السلفية"، وفق ما قاله إبراهيم نقلاً عن قادة الحزب السلفي.

وكشفت مصادر دبلوماسية في القاهرة عن أن هذه الزيارة لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبقتها أخرى في نوفمبر 2012 إثر ترتيبات أعدتها السفارة الأميركية بالقاهرة بالتنسيق مع قادة الحزب السلفي، وبعد ذلك صار هؤلاء ضيوفًا دائمين على السفارة الأميركية بالقاهرة التي تنفذ سياسة "الاحتواء المزدوج" وتجهيز البدائل، خاصة بعد التقارب الواضح بين نظام الحكم الإخواني وطهران، للضغط على واشنطن التي تتحفظ بالطبع على هذا السلوك السياسي، بينما يبدو موقف السلفيين حيال إيران محسومًا لأسباب معلومة.

أما أحدث حلقات التواصل بين قوى الإسلام السياسي والأميركيين فكان بطلها القيادي الإخواني المنشق، والمرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح الذي استقبل السفيرة الأميركية في مكتبه. وعقب اللقاء اكتفى ديفيد لينفيلد المتحدث الإعلامي باسم السفارة الأميركية بالقاهرة بالقول إن السفيرة استمعت لرؤية أبو الفتوح السياسية للأوضاع الراهنة في مصر، لكنه لم يشأ الخوض في تفاصيل اللقاء وملابساته.

وبالتزامن مع هذا السباق الذي استعرضناه لمختلف تيارات الإسلام السياسي بمصر سعيًا للحصول على "الرضا السامي" لواشنطن؛ فهناك تسريبات لها مغزاها للسفيرة الأميركية، ألمحت إليها خلال اجتماعها مع وفد لكبار رجال الأعمال المصريين في واشنطن مؤخراً، وأشارت فيها إلى أن بلادها تضع ضمن حساباتها دورًا لن يستطيع التصدي له إلا الجيش للإطاحة بحكم مرسي والإخوان ومعه حلفاؤه الذين أصبحوا منافسي اليوم من "السلفيين"، لانتشال البلاد من احتمال الاقتتال الأهلي وانهيار الاقتصاد واستمرار انفلات الأمن لدرجة الفوضى.

وهكذا يبدو واضحًا للعيان مدى حرص واشنطن للإبقاء على "شعرة معاوية" مع كافة القوى الفاعلة على الساحة المصرية، لأنها شأن أي إمبراطورية كبرى لن تدعم سوى الفصيل القادر على ضبط الأوضاع، وهذا في حد ذاته يتصدر أجندة مصالحها الخاصة في دولة محورية إقليميًا في وزن مصر.