الإنسان هو ابن المكان بل لا يستطيع الانعتاق والفكاك من هيمنته، وسطوته وحركته، ونلمح ذلك التعالق الجمالي والدلالي عند الشعراء، حين يوظفون ما حولهم في تواشج لا شعوري ودفق انفعالي، يشي بالحميمية والاستكناه الرمزي والسمة المزجية بين الإنسان والطبيعة، فيحولونها من وظيفة عضوية تفسيرية إلى واقع تخييلي، يفضي إلى انفتاح أسطوري ميثولوجي، وتلمس ذلك عند بدر السياب كأكثر الشعراء العرب المائيين، بوصفه بنية ضاغطة ورؤى متداخلة ومنثالة ومضفورة ضمنا في خطابه ومعجمه الشعري. والماء "تكوين حي متحول يمنح الأشكال الحاوية له بعدا خياليا وشعريا، وهو كيان معرفي لا حد لقدرته على التوليد والتشكيل والتأويل".
قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" وفي هذا المنحى احتفل بعض شعراء الجنوب في بلادنا بتلك الأجواء المائية، حيث تبدو أكثر وضوحا وتلازما وكمونا في قصائدهم، فرفيف الماء يطفو وينسرب من قيعان اللاوعي لديهم ليتجسد محمولا على شفة المعنى، يقول محمد العامر الفتحي: هذي التباشير في عينيك هل علمت بجدب أرضي بين الماء والماء؟ وفي نفس المساق يشيع إبراهيم صعابي هالة من السحر المائي المحسوس والدلالي: "يا سيدي أطلق دمي وجه المليحة ما به قد كان يحمل غرة مجنونة من أول الدرب الذي نسي الخطا حتى حدود الماء في ورق الشجر". ويستحضر محمد الحفظي السمة المكانية حين تتلبسه بصرامتها فيتراسل ويتداخل معها: "ضاعت على سحب الركام الذكريات ضاعت وفي ألوانها معنى البقايا والمصير والعمر أذهله المسير تبقى الخواطر لون ماء جف في وقت الهجير".
ويستغرق أحمد البهكلي في حدسه الجمالي وحضور الصورة في مشهد حي ومعمق يتمدد بين الواقع والحلم: "تبني المنى مدنا خضرا وتمنحها حبا يبدد عنها البغض والحسدا. تفجر الصخر ماء والطوى شبعا وتشعل الثلج نارا والجفاف ندى". وتكتظ دفاتر محمد يعقوب بالإيحاء المائي فهو يمتح من البحر الذي يلامس قدميه، في علاقة جدلية مزدحمة بالتداعيات: "أوراقي البيضاء لا معنى لها وسرير ذاكرتي حروف الماء". وتفصح فاطمة القرني في جو طقسي متحفز، وشحنة انفعالية متصاعدة: "أبي قل إنه الإسلام أصلي به العز المؤبد والمكين وإنا دونه لا خير فينا خواء كلنا ماء وطين".
وفي لحظة ترجيع ماضوي استجابة لنداء الذاكرة وتخومها البعيدة، يعمد عبدالرحمن المحسني إلى توصيف استرجاعي وبوح وجداني: "على طرف من الأرض الخصيبة يوم غيث يعجب الزراع، سقى الأرض حتى تطامنت الأرض ها أنت حول (الزهوب) تساقي تصحب الماء تمهره بالأمل".