المروءة في كتب اللغة هي "الإنسانية" كما ذكر الجوهري، وقال ابن الفارس: "الرجولية، وقيل صاحب المروءة: من يصون نفسه عن الدنس، ويقال مرؤ الرجل؛ أي صار ذا مروءة، وتمرأ الرجل: أي تكلف".

وفي تعريف المروءة كمصطلح جاء أنها: "كمال الإنسان من صدق اللسان، واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الجيران. وهي التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه في لبسه ومشيه، وحركاته وسكناته، وسائر صفاته".. كما جاء في فتح الباقي وكتاب شرح النخبة. فالمروءة لها معنيان: الإنسانية أو كمال الرجولية، أو الرجولية الكاملة؛ لاشتمالها وكمال الرجولية ينتظم من الأخلاق الحميدة، والآداب السامية، فالمروءة إذاً هي جماع مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فمن يفوته جانب من هذه المكارم يفوته جانب من العناصر التي تتكون منها المروءة. يقول سعيد بن حميد في كتاب خوارم المروءة لأبي عبيدة مشهور:

وليذهبن بهاء كل مروءة.. وليفقدن جمالها المأهول.

ويقول مشهور في تعاطيه لهذا المعنى: "إن المروءة هي اللفظة الأولى للإنسانية في لغتنا، وهي تحمل كل معاني الإنسانية منذ عصر الجاهلية إلى اليوم، ولكن ترجمتها إلى لغة عصرنا بكلمة إنسانية شيء آخر؛ لأن هذه الترجمة تنقل المروءة من معناها القومي إلى معناها العالمي، والمروءة إنسانية العرب وحدهم، أما الإنسانية؛ فمروءة الأمم كاملة، لأنها مروءة الإنسان من حيث هو إنسان مجرداً من اللون والعنصر وكل اعتبار خارجي".. وإذا كانت المروءة تعني الإنسانية بالمفهوم العالمي؛ فإن لها معاني مختلفة أكثر عمقا وأكثر التزاما عند العرب؛ حيث إن التفريط في أمر من أمور المروءة أو بند من بنودها يعد خرقا لمفهوم الكرامة والشرف؛ والشرف هو اللبنة الأولى في بناء الشخصية العربية.

أما مفهوم الإنسانية بالمعنى العالمي الفضفاض، فهو يعني الخطوط العريضة من حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً. بينما نجد أن معنى المروءة بالمفهوم العربي يهتم بكل تفاصيل التعامل المجتمعي الذي يحفظ للعربي هويته التي صنعها بنفسه دون سواه؛ وعلى سبيل المثال المتناهي الدقة، أن يمشي الرجل مطأطأ الرأس، أو يعقد يديه خلفه حين يمشي، أو يأكل قبل زملائه حين حضور الطعام أو أن يشرب الرجل وهو واقف، يقول أحد الرحالة: "حين نمر بأناس ونقول السلام عليكم يردون السلام واقفين، فالأعرابي لا يرد السلام إلا واقفا".. ويقول: "توجهت إلى الصحراء مع اثني عشر رجلاً من الأعراب.. وكان ذلك بعد ثمانية أيام من تركنا البئر وقد أصبحنا على مقربة من بئر أخرى بعد أن اشتد بنا العطش.. ووصلنا البئر وسقينا إبلنا، وأطلقناها ترعى ثم جلسنا جنب البئر. ولم يشرب أحد منا بعد. وحرصت ألا أظهر بمظر المتهافت المتعجل. ولكن الظمأ دفعني إلى اقتراح الشرب. وأعطاني كبيرهم قدحا من الماء. ووجدت من اللياقة أن أقدمها للشيخ. ولكنه رفض وطلب مني أن أشرب، أما هو فإنه لن يشرب حتى يصل الآخرون". وأضاف قائلا: "إنه من غير اللائق أن يشرب دون رفاقه في السفر. فالبدوي لا يأكل أو يشرب في غياب صاحبه ورفيقه".. هذه التفاصيل الدقيقة بالغة الأهمية في تحديد شخصية الفرد منهم، ذلك لأنهم متنوعو الترحال وبينهم علامات يعرفونها، فلا مكان بينهم لمن يجرؤ على خرم المروءة. وبطبيعة الحال فهناك الأعراف (الجد الأكبر) التي تستنبت منها المروءة وعلاماتها المتعارف عليها؛ وقد ذكرت لي صديقة وباحثة في علوم الدين والشريعة: أنه يتم التقصي عن راوي الحديث فإن وجد أن لديه نقيصة في سمات المروءة، لم يؤخذ عنه الحديث! هكذا كنا وهكذا سطرنا تاريخاً غزا العالم؛ حيث يقول (وثجنر) وهو من أهم الرحالة في بلاد العرب: "لقد كنت أفكر في أثر العرب على التاريخ العالمي. لقد فرض أعراب الصحراء ميزاتهم وخصائصهم وتقاليدهم على الجنس العربي كله. فالعادات والمعايير التي انتشرت عن طريق الفتح الإسلامي حتى شمال أفريقية والشرق الأوسط، بل والتي شملت جزءاً كبيراً من العالم، كانت كلها قادمة من الصحراء". وفي موضع آخر يقول: "إن البدو يسيرون عادة مستقيمي الجذع وبخطى قصيرة"، وذلك لأن طأطأة الرأس أو الركض يعدان نقيصة من نقائص المروءة بينهم، وكذلك من يأكل وهو يمشي أو على قارعة الطريق.

وقد ظهرت فلسفات غربية أثرت في بنية الشخصية العربية وتهدد هويتها، وهذا من أهم المخاطر التي تداهم مفاهيمنا لترابط البنية الاجتماعية لدينا وبالتالي محو الهوية التي هي" الهو. هو" أي الشيء ذاته الذي لا رديف له. ومن أهمها استبدال القيمة بالثمن وإسقاط الكاريزما وغير ذلك مما أصبحنا نراه يتفشى بيننا.

فالنظرية الماركسية في آليات صناعة الأيديولوجيا منها (تحويل القيمة إلى ثمن وتحويل التاريخي إلى طبيعي). واستبدال القيمة بالثمن هو استبدال إحدى القيم الإنسانية بمقابل مادي. مثال استبدال الشرف بالمال لنفي قيمة الشرف وتحويله إلى سلعة، أو تشيؤ المرأة وتسليعها لتتحول إلى دخل مادي والاستفادة من دخلها وراتبها ووضع صورتها على شباك التذاكر أو آليات الإعلانات وغير ذلك، أو عمالة الأطفال إلخ.. أما تحويل التاريخي إلى طبيعي، فهو جعل شيء طبيعي له تاريخ يصبح مع مرور الزمن أمرا طبيعيا مستهلكا. أما إسقاط الكاريزما فهي من النظريات العولمية الحديثة، وهي تعتمد على إسقاط الشخصية الكارزمية بداية من الوالدين وانتهاء برموز الثقافة والأدب والسياسة.

فهل آن الأوان أن نحافظ على كل ما هو خاص وخصوصي بنا وبتكوين الشخصية العربية التي سادت العالم في يوم كانت فيه متمسكة بهويتها، معتزة بها؟ فقد قال وتسينجر في كتابه "رمال الصحراء" كلمة سطر بها هذا التاريخ فيقول في القرن التاسع عشر: "في اعتقادي أن حضارات العالم اليوم ستندثر تماما كما اندثرت حضارات بابل وآشور، وأن كتاب التاريخ المدرسي بعد ألفي سنة سيتضمن صفحات عدة للحضارة العربية في الوقت الذي لن يذكر فيه إلى جانبها حتى الولايات المتحدة الأميركية".. ولن نصنع تاريخاً إلا بتلك الشخصية المعجونة بعطر المروءة.