لقد كبرنا وعلى ألسنتنا وفي وجداننا يختلج تاريخ من التمتمات بنا ذات يقين، أو هكذا كنا نرتب أحلامنا، نردد من أدنى الأرض إلى عنان السماء "بلاد العرب أوطاني..."، وعلقنا داخل إيحاءات إرنان حروفها، محلقين في فضاء الله كالعصافير تارة، وكالنسور تارة أخرى، حتى أوشكنا على اختراق الغلاف الجوي للأرض، ولم نحتج إلى أجنحة لنفعل ذلك ذات عمر، فعلنا ذلك مؤمنين بعظمة كل حرف يُشع من التكوين، وقلقنا فقط من إرهاق أجنحتنا التي امتدت من صخب المحيط إلى صهيل أمواج الخليج، وخشينا أن نخذل المستقبل في حدقات التاريخ.
وفي ذلك يذهب "عبدالقاهر الجرجاني" إلى أن الماهية: "ماهية الشيء ما به الشيء هو هو، وهي من حيث هي"، ثم يصنف "الجرجاني" أيضا في كتابه "التعريفات" مُعرفا الهُوية على أنها: "الحقيقة المطلقة، المشتملة على الحقائق، اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"، ويعرفها قاموس أكسفورد بوصفها "حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق". لكن الإنسان العربي – وأنا واحد منهم - لا يعنيه اختلاف التعريفات أو التقاؤها أو تنظيرات أهلها، بقدر ما يعنيه استيعاب ما حدث، ولماذا حدث؟ وإلى متى سيظل ذلك يحدث؟ في محاولة للعثور على طمأنينة غابت عنه كثيرا جدا. لتظل المجتمعات العربية على اختلافها وتنوعها تعاني من أزمة هُوية حقيقية خانقة، متسببة في اضطرابات نفسية قاتلة لإنسانها، أبعدته عن الحضور العالمي كمبدع وصانع أممي مؤثر وفاعل، وجعلت منه غريبا في وطنه الكبير "الحلم"، وربما غريبا أيضا في "وطنه الصغير"، وحتى في داخله، كيف لا وهو الذي نشأ يردد:
"بلاد العُرب أوطاني من الشـام لبغدان.. ومن نجدٍ إلى يَمـنٍ إلى مصـرَ فتطوانِ
فـلا حدّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفرّقنا.. لسان الضاد يجمعنا بغـسان وعـدنان
لترتطم كل أحلامه لاحقا بجدران واقع التصنيف البغيض، الذي تخيل حينا أنه فضاء الله الرحيب الذي آمن به ذات طفولة، لينتكس مرة بعد أخرى وما يزال من هول التناقض العظيم بين حلمه الذي بشروه به، وواقعه الذي ما فتئ تباغته الطعنات. وإن ترنح المواطن العربي بين أقرانه من مواطني العالم على كل المستويات، فلا تثريب عليه بعد كل تلك الصدمات التي نكلت بتكوينه العقلي. ثم إنه لمن المحير بعد كل ذلك أن نقرأ المؤلفات والتنظيرات المحذرة من خطر العولمة على الهوية العربية!! يالها من سخرية.. فما زال في قومي واهمون.
وفي هذا يعجبني – وركزوا معي - رأي كبير العقلانيين "ديكارت" في "التأملات الميتافيزيقية" حين يقول: "تفطنت، منذ مدة، إلى أنني تلقيت منذ كنت صغيرا جملة من الآراء الخاطئة، كنت أظن أنها صادقة، وإلى أن ما أقمته بعد ذلك على مبادئ هذه حالها من الاضطراب، لا يمكن إلا أن يكون مشكوكا فيه جدا ومفتقرا إلى اليقين. فكان لا بد لي أن أعزم مرة في حياتي على التحرر جديا من كل الآراء التي اعتبرتها صادقة إلى حد الآن، وأن أبدأ كل شيء من جديد، من الأسس". وأنا معه في ذلك باتساع سماوات "وطني العربي الكبير" حتى الرئتين، ولقد هرمنا.