تتابعت المقالات الصحفية التي كتبها زملاء عديدون حيال خبر غير موثوق نشر عن اشتراط بعض الدعاة أجوراً لقاء دروسهم أو محاضراتهم التي يدعون إليها، رغم نفي المندوبيات الدعوية لتلك الفرية؛ إلا أن البعض استمرأ هذا الهجوم المعيب، وهو يعلم – يقينا - أن الروح الرسالية هي أحد أقوى ما يمتلكه التيار الديني، وبفضله جاب بلاد العالم من أدناها إلى أقصاها لنشر الدعوة؛ دون أن ينتظر دعاته جزاءً ولا شكوراً إلا من رب السماوات والأرض، ولربما وَهِم بعض هؤلاء؛ وخلطوا بين الدورات التدريبية في التخصصات غير الشرعية؛ مثل دورات البرمجة والعلاقات الإنسانية وتطوير الذات التي انخرط فيها بعض الدعاة، وبين الندوات والمحاضرات الدعوية الخالصة.

أسوق هذه المقدمة لألج في موضوع اليوم، الذي خصصته للحديث عن يوم نادر لا ينسى؛ مررت به خلال الأسبوع الفارط، رداً على أولئك الذين يلمزون العلماء والدعاة بأنهم طالبو دنيا وأجر. أقدّم لأولئك الكتبة مثالاً حقيقياً واحداً ليومية أحد العلماء الذي تشرّفت –شخصياً - بمرافقته لمدينة الطائف خلال الأسبوع الفارط. فقد آنس مني معالي الشيخ - الذي أتجاوز عن ذكر اسمه ليقيني بعتبه الشديد إن فعلت - وطلبني لمرافقته، واهتبلتها فرصة أن أعود لمدينتي الأحبّ، وأستروح في سفوح جبالها، وأنعم بتيارات الهواء المنعشة التي تدغدغ الوجنات بلذعات برد ساحرة، وأحمد الله أنني نمت مبكراً ليلتها وإلا لكانت كارثة عليّ. أكرمني معاليه بالمرور عليّ في الثامنة والنصف صباحاً، وقد أتى من إلقاء درس في أحد مساجد جدة بدأه من السابعة صباحاً. استغربت منه المجيء – وقت سؤالي - من هذا المسجد؛ لأن الإعلانات الموزعة عن الدورة العلمية التي يشارك فيها تقول إن الدرس في مسجد آخر، فأخبرني أن الإعلان صحيح وأنه صلى بذاك المسجد، وألقى درسه بعد الفجر وانتهى منه في السادسة والنصف، ومن ثمّ ذهب للمسجد الآخر في درسٍ ثانٍ.

بكل وقار العلماء واتزانهم؛ كان يجيبني، وأنا الصحفي الذي ما فتئ يسأل السؤال تلو السؤال، وكانت السيارة التي تقلنا عامرةً بالكتب الحديثة والقديمة يقرأ فيها أويقات وجوده فيها، وعندما وصلنا إلى منزله بالطائف بعد ساعتين، باشرنا الأبناء بالقهوة والشاي، وألفيت الشيخ منكباً على الكتابة، وأزف وقت صلاة الظهر، وانطلقنا إلى مستشفى الهدا العسكري، وألقى الشيخ هناك محاضرة عن "النوازل الطبية" لأطباء ذلك المستشفى، وعندما انتهت المحاضرة؛ عدنا للمنزل في حوالي الساعة الثانية ظهراً، وإذا بابنه يعدّ له "اللاب توب" ليلقي محاضرة عبر الإنترنت، لتلامذة متوزعين في أنحاء العالم، ويترجم درسه بالإنجليزية، ووقتما انتهى قرابة الثالثة عصراً، لبّى دعوة لأحد زملائه العلماء، لأجد نفسي وسط حشد علمائي رفيع، جلّهم في هيئة كبار العلماء، يتحاورون ويتناقشون حيال مسائل شرعية، ولطالما قرأت كثيراً عن ظرف الفقهاء والعلماء، بيد أنني تحققته في ذلك اليوم، عبر بساطة وتواضع لا نظير لهما.

عدنا بُعيد صلاة العصر لمنزل الشيخ؛ وإذا بي أمام سبعين طالباً من منطقة شرورة، من طلبة تحفيظ كتاب الله، أتوا للسلام والجلوس إليه لسؤاله. وعبر مجلس علمي ممتد؛ أشرقت وجوه الأبناء - هم ما بين الخامسة عشرة إلى العشرين - بوضاءة إيمانية تخطف الأبصار، وتتالوا في أسئلتهم يستزيدون العلم وينشدون المعرفة عبر أسئلة تتساوق وأعمارهم الغضّة، غير ناسٍ أن الشيخ أوصى قبل ذهابه بضرورة تناولهم الغذاء في بيته والاعتذار لهم.

ووقتما حانت الساعة الخامسة عصراً؛ استأذن منهم بكل أدب وحنو، وانطلقنا إلى الحوية؛ فثمة درس لديه في الخامسة والنصف في (الأربعين النووية) ضمن دورة علمية، ووقتما دلفت للمسجد طالعت إعلان الدورة، ولمحت أسماء معالي الشيخ صالح بن حميد والشيخ صالح الفوزان وثلة علماء يحاضرون عندها، همهمت في نفسي بأن حالهم حال الشيخ الذي أرافق، وتأملته وهو يلقي الدرس؛ والسعادة ملء إهابه، والحيوية والبشر تفيضان منه، وطلبة العلم الشرعي - الذين يزيدون على المئة في قرية من قرى الطائف - يتفاعلون معه، وهاجت بي الذكريات عن هذه المجالس التي غبت عنها ردحاً من الزمن، واستشعرت كل الحنين لتلك الأحاديث في فضل مجالس العلماء التي تتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده. شعرت بلذة روحية لا تضاهى، ونفحات إيمانية لا حدود لها، يتذوقها أولئك الذين يثنون ركبهم في حلق الذكر هذه، استحضرت - مما بقي في ذاكرتي - يقيناً ما قاله الحسن البصري: "والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم؛ لجالدونا عليه بالسيوف".

بعد انتهاء الدرس؛ عدنا لزيارة أحد العلماء في منطقة الهدا، لنمضي في جلسة فكرية صاخبة، ننطلق بعدها إلى مسجد آخر في مدينة الطائف لدورة علمية أخرى، تبثّ عبر المجموعة التلفزيونية المغلقة إلى سائر أنحاء المملكة، طبعاً ثقل رأسي هنا، وطار مني تماماً ما أمّلت نفسي به من الدعة والراحة والاستجمام، وأنا أتنقل عبر هذه المساجد وحلق العلم.

عدنا لمنزل الشيخ، وإذا بضيوف من وجهاء وعلماء الطائف في انتظاره وقد دعوا للعشاء، وكان الحوار المطروح يدور في أمور حياتية شتى، وهو ينصت ويستمع بكثير من الابتسام والحب، وقليل من المشاركة - إذا سئل - بما تواضع عليه العلماء، وبعد تناول العشاء وقد أزفت الساعة على الثانية عشرة ليلاً، غادرنا الطائف عائدين إلى جدة، ورأسي يترنح وعيناي يتغشاهما الوسن، وإذا بالشيخ ينهمك في الطريق بالإجابة على عشرات الرسائل التي تستفتيه، وقد تراكمت في جواله، وهو يجيبهم كتابة، وهكذا إلى أن وصلت منزلي في الثانية صباحاً، وأنا لا أميّز الطريق من فرط إرهاقي، ووقتما سألت الشيخ متى سينام، هزّ برأسه باسماً، وقال: هكذا يوميتي غالب الأسبوعين الماضيين، أنام في الثانية والنصف صباحاً، وأستيقظ في الرابعة والنصف، وأمضي يومي بما رأيته حتى اليوم التالي، وسأرجع إلى الطائف في الثامنة والنصف.

ما ذكرته نموذج حقيقي ومن واقع عشته مع أحد علمائنا في هذا الوطن المضيء بالرسالة، وآمنت يقيناً أن الإسلام متجذر في هذه الأرض، وأنه مهما فعل الآخرون فلن يستطيعوا أن يصلوا لهذه المرحلة من البذل والعطاء والرسالية لما يؤمن الإنسان به من قيم، فضلاً على أنني ميزت السعادة والحبور صدقاً، وتهلل الوجه مع الطلبة، ولا يتأتى ذلك إلا لأصحاب الرسالية الحقيقية، فهي الوقود والزاد اللذان يبقيان أبداً. آمنت بحقّ أن مناوئي الدعاة مهما طعنوا وغمزوا؛ فلن يستطيع أحد منهم أن يبذل ما بذله أمثال هذا العالم من وقته وجهده وماله.

آمنت أن الله حافظ هذا الدين بهؤلاء الرجال، وقد تبسمت طويلاً من فرية أنهم طلاب دنيا وشهرة ومال، فلا والله، إن غالب دعاتنا هم من هذه النماذج الوضيئة، ولتخرس ألسنة أولئك الشباب الذين يزعمون أن علماءنا لا صلة لهم بالواقع، ولا يعرفون العصر، فقد ألفيت الشيخ أكثر معرفة مني بأساليب الجدل، وأوصاني بمجموعة كتب فيها، وأكثر معرفة بالمفكرين المعاصرين، بل حتى الاكتشافات الطبية وغيرها.

اليوم الذي قضيته مع هذا العالم صحّح كثيراً من الصورة الشائهة عن نمطية وتقليدية علمائنا، وتمنيت أن تكون كاميرا قناة فضائية هي من تتابع لا صحفي بسيط، يكتب بحياء ودون إذن، عن يومية عالم شرعي من بلادنا.

بعد استيقاظي قريباً من الظهر، ألفيت رسالة جوال قابعة في بريدي من الشيخ، يطلبني لمرافقته، قفزت مذعوراً، وهربت إلى مكتبي.