يصادف يوم الخامس عشر من شهر يونيو ذكرى مرور 65 عاما على النكبة الفلسطينية. وكانت هذه النكبة قد حدثت بعد رفض العرب لقرار التقسيم رقم 188 الصادر عن الأمم المتحدة في 17 نوفمبر 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين التاريخية، مناصفة بين اليهود والعرب، ووضع مدينة القدس تحت وصاية دولية.
رفض العرب قرار التقسيم، لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الحقائق التاريخية، وأهمها وجود العرب على أرض فلسطين، في حلقات ممتدة دونما انقطاع، لما يربو على الألفي عام، إضافة إلى أن اليهود المدونة أسماؤهم في سجلات الانتداب البريطاني، كسكان لفلسطين، لحين انتهاء الانتداب لم يتجاوز تعدادهم 7% من السكان. لقد وجدت القيادات العربية في قرارا التقسيم ظلما فادحا، تجاه الحقوق الفلسطينية، وشنت حربا بهدف استعادة فلسطين، وإيقاف المجازر التي يرتكبها الصهاينة بحق المدنيين العزل.
وانتهت الحرب بهزيمة مروعة للجيوش العربية. يومها سئل المفكر العربي، ساطع الحصري، عن أسباب فشل الجيوش العربية في مواجهة الصهاينة، مع أنها سبعة جيوش، في مواجهة عصابات، قدمت من مختلف أصقاع الأرض.. فأجاب لقد هزموا لأنهم سبعة جيوش. والمعنى كما يشير له الحصري أن الجيوش العربية هزمت لأنها افتقرت للتنسيق فيما بينها. لقد دخلت الجيوش الحرب بنية مناصرة الأشقاء، لكنها لم تتهيأ لمستلزماتها، فكانت النتائج كارثية، لا يزال الفلسطينيون يعانون من أكلافها.
ومنذ ذلك التاريخ، برزت معادلة صارمة، لا تزال قائمة في صراعنا مع العدو حتى يومنا هذا. خلاصة هذه المعادلة أن العرب ينتصرون على أعدائهم، عندما يتحقق لهم حد مقبول من التضامن والتنسيق، وينهزمون حين يستغرقون قوتهم في صراعات مع بعضهم البعض.
بعد ثماني سنوات من تأسيس الكيان الغاصب، وتحديدا عام 1956، حدث العدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، على مصر. وغمر المنطقة العربية، قيادات وشعوبا، تضامن عربي غير معهود. فتحت المملكة العربية السعودية مطاراتها لاسقبال الطائرات العسكرية والمدنية المصرية التي جثمت فوق المطارات السعودية لحين انتهاء العدوان. ووضعت المملكة كافة قدراتها إلى جانب مصر، وأسهمت في تأمين احتياجاتها من الوقود. ووقف العرب جميعا مواقف مشرفة تجاه العدوان، وساهمت حقائق إقليمية ودولية في دعم مواجهته، وانتهت الحرب بالخيبة والفشل الذريع للمعتدين. وكان تصليب الموقف التضامني العربي هو أحد أسباب انتصار مصر والأمة العربية على الغزو الخارجي.
في الستينات من القرن المنصرم، عاش المشرق العربي انقسامات وصراعات سياسية كبيرة. وبدلا من التصدي للعدو المشترك للأمة، دخلنا في مواجهات دامية ومعارك طاحنة مع بعضنا البعض. والجيوش العربية التي كان من المفترض أن تكون متحسبة للعدوان الصهيوني، الذي لم يتردد مطلقا في الإفصاح عن نوازع العدوان، حيث السطو آنذاك على مياه نهر الأردن وتحويلها إلى صحراء النقب، وضعت في غير محلها. فكانت نكسة يونيو 1967، التي نتج عنها تضخم إسرائيل إلى أكثر من ثلاث مرات من حجمها، بعد تمكنها من بلع شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة ومدينة القدس الشرقية والضفة الغربية وهضبة الجولان.
كان مؤتمر القمة العربية بالخرطوم، ولقاء الزعيمين الراحلين الملك فيصل والرئيس عبدالناصر، قد وضع النقاط على الحروف، وانتهى ببرنامج سياسي وعسكري لإزالة آثار العدوان. سحبت القوات المصرية من اليمن، لترابط على جبهة المواجهة مع "إسرائيل"، بالضفة الغربية للقناة. وتعهدت دول النفط بالاستمرار بتقديم مبالغ سخية، إلى أن تتمكن الأقطار العربية من استرجاع أراضيها. ورغم فظاعة النكسة، فإن نتائج قمة الخرطوم صلبت الموقف السياسي العربي، وجعلته متماسكا ومؤثرا، في مسرح المواجهة.
وتكرر الموقف التضامني في محطات أخرى، من الصراع، مؤكدا المعادلة التي أشرنا لها. ولعل الأبرز فيها، هو الموقف السعودي، في حرب أكتوبر 1973، حين زاوج العرب في استخدام النفط، في مجالي السلاح والسياسة، وتمكنوا من تغيير خرافة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، لكن ما جرى بعد ذلك هو أمر لم يكن في الحسبان، فقد انتصر السلاح. وأعطى التضامن العربي، وتصليب الموقف ثماره بوضوح، وتأكدت عزيمة الجيوش العربية في استخدامه، وفي خوض المعارك بجرأة وشجاعة واستعداد للتضحية، لكن السياسة لم تكن قد تهيأت لاستثمار ذلك، فكان نصر السلاح وفشل السياسة.
وبالنسبة للصهاينة فإن نوازعهم التوسعية والعدوانية تجاه جميع الأقطار العربية لم تتوقف أبدا منذ تأسيس كيانهم الغاصب. توسع عمقهم الاستراتيجي ليشمل مناطق أخرى، وطالت أذرع العدوان بلدانا عربية جديدة، شملت تونس والعراق والسودان. اللاجم الوحيد لتلك النوازع كان ولا يزال تصليب الموقف العربي في مواجهة العدوان. لم تمنعهم اتفاقيات كامب ديفيد من غزو بيروت. وحين وقع الرئيس ياسر عرفات اتفاقية أوسلو عام 1993، حسبت منظمة التحرير الفلسطينية أن مرحلة جديدة من السلام في المنطقة في طريقها إلى الانبثاق، لكن الرئيس عرفات نفسه، انتهى به المطاف سجينا في مقره الرئاسي برام الله، لينهي حياته مسموما على يد الإسرائيليين، بالطريقة التي أفصحت عنها القيادة الفلسطينية.
الآن ورغم كل اتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقعها العرب مع "إسرائيل" والتي شملت مصر وسورية والأردن ولبنان، يتمادى الصهاينة في عدوانهم غير آبهين بتلك الاتفاقيات، ومعظمها جرت بوساطة ورعاية دولية، وبموجب قرارات أممية. فاعتداءاتها بالضفة الغربية يعجز هذا الحديث عن الإحاطة بتفاصيلها. وبالمثل هناك اعتداءات متكررة على قطاع غزة، أما لبنان فإن طائرات العدوان لا تتوقف يوما عن التحليق فوق أجوائه، خارقة مجاله الجوي، وضاربة بعرض الحائط كل الأعراف والمواثيق.
العدوان الإسرائيلي الأخير على سورية يأتي ضمن نهج عدواني مستمر، والموقف السعودي تجاهه يأتي ضمن ثوابت تمسكت بها المملكة، في تعاملها مع العدوان.. نهج يضع تصليب الموقف العربي في مواجهة الغطرسة الصهيونية، ضمن ثوابته وأولوياته. لقد وصف مجلس الوزراء العدوان بأنه "انتهاك خطير للسيادة السورية"، وطالب مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذه الاعتداءات"، وحذر من "تداعيات العدوان الخطيرة على أمن واستقرار المنطقة"، وأعرب عن القلق "إزاء استمرار تدهور الأوضاع في سورية".. فهذا العدوان هو في كل الأحوال انتهاك خطير لسيادة دولة عربية.
تصليب الموقف التضامني العربي تجاه العدوان هو الرد العملي على الاعتداءات الصهيونية، فهل يتمكن العرب جميعا من تمثله واعتباره خيارا استراتيجيا في سياساتهم؟