لم تكن الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك ونظامه "ثورة جياع"، فهذه لم تبدأ بعد، بل كانت "ثورة حريات" اصطف خلفها شباب من شتى المشارب، كان قدره أن يعيش مرحلة التحول العميق الراهنة التي تشهدها مصر، وبالتالي جرى تسييس جيل طالما واجه اتهامات من الآباء بأنه "جيل تافه" لا يكترث إلا لنزواته الشخصية، ولا يقرأ أو يُعير الشأن العام أدنى اهتمام.

لكن ما حدث أن الأيام الثمانية عشر الفاصلة في تاريخ مصر المعاصر وما تبعها من تطورات، واكتنفها من ملابسات؛ كانت كفيلة بأن يجد هذا الجيل نفسه غارقًا لأذنيه في عالم السياسة وكواليسها ومؤامراتها وحساباتها المعقدة، وبعد أن تكاتفوا مع نظرائهم من شباب الإخوان والسلفيين ضد المرشح الرئاسي أحمد شفيق، ليس حبا في الإخوان وإنما بغض للنظام السابق؛ اكتشف الشباب الطامح لدولة مدنية قوامها المواطنة، وسيادة القانون، واحترام الحريات العامة والشخصية؛ أن ثورتهم سرقت لصالح "الأهل والعشيرة" من جماعة الإخوان، ومن هنا حدثت عملية فرز أسهم في تعميقها الانقسام السياسي وانسداد الأفق أمام الشباب، الذين تعرضوا لاعتداءات من قبل مجموعات مدربة وصفت إعلاميًا بميليشيات الإخوان، كما حدث في مواجهات شتى لعل أشهرها كان أمام قصر "الاتحادية" الرئاسي، حين انقض شباب تيار الإسلام السياسي على المعارضين المدنيين.

وجرت مياه غزيرة في النيل، فبعد أن مرت ثمانية أشهر من حُكم الرئيس مرسي اتضح أن المحصلة لا تُلبّي طموحات المصريين عمومًا، وتأكد لقطاعات عريضة من الشعب أن نظام الإخوان "لا يريد المشاركة، بل المغالبة"، وأن مرسي عاجز عن القيام بواجباته كرئيس لكل المصريين، لكن فقط لعشيرته وجماعته، مما شكّل صدمة لمَن انتخبوه متوهمين أن الجماعة ستقدِّم أنموذجا للتطور الديموقراطي والنهوض الاقتصادي واستقلالية مؤسسات الدولة، خاصة السيادية منها.

وهكذا تبدلت الحسابات ووقعت الانشقاقات بين الكيانات والتحالفات الشبابية وتدهورت المواجهات من الملاسنات الحادة عبر وسائل الإعلام إلى مصادمات دامية راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى، وحوصرت مؤسسات عامة ومقار للإخوان والأحزاب، وعرف العنف طريقه إلى الشارع لتفقد الثورة المصرية أنبل ما فيها وهو "السلمية".

على أرض الواقع، وعبر شبكات التواصل الإلكترونية، تحدثت كثيرًا مع العديد من "شباب الثورة" الذين سرت بين صفوفهم قناعة مؤداها أنه لم يعد أمامهم سوى اللجوء للعنف، "كرد فعل على عنف الإخوان وحلفائهم"، في إشارة إلى الجماعة ومؤيديها كفصيل "حازمون" الذين يلتفون حول الإسلامي المثير للجدل حازم أبو إسماعيل، وكال شباب الثورة الاتهامات للإخوان ولعل أبرزها إنتاج "فاشية إخوانية" تضرب عرض الحائط بالديموقراطية والحريات العامة، التي قامت لأجلها الثورة، لهذا ظهرت على الساحة كيانات تنتهج العنف المضاد مثل "بلاك بلوك" و"الأناركية" و"الثوريين الاشتراكيين" وغيرهم.

خلال أشهر الصيف سينتهي شباب الجامعات من أداء امتحانات نهاية العام، ووفقًا لحسابات سياسية ومعلومات من مصادر هذه المجموعات الشبابية فإنهم يعتزمون التصعيد ضد نظام الإخوان الحاكم، من خلال تنظيم فعاليات كالاحتجاجات والمليونيات وغيرهما، فيما سربت جماعة الإخوان ومن يواليها معلومات بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذه الفعاليات، بل سيتصدون لها بكل الوسائل.

إذن فالصدام قادم لا محالة بين شباب مصر، وقد تندلع شرارته لسبب تافه، وخلف كل فصيل ظهير سياسي وإعلامي يؤيده بينما يتعمق الانقسام السياسي وتتردى الأوضاع الاقتصادية وتبدو أجهزة الأمن هشّة عاجزة عن السيطرة على المواجهات المرتقبة، في صيف يسهر فيه المصريون حتى الساعات الأولى للصباح، خاصة أننا بانتظار عدة مواسم ترتبط باستحقاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية كشهر رمضان المبارك وبعده عيد الفطر، وهو ما يُنذر بتصعيد متبادل، حرثت الأرض أمامه ممارسات سياسية تصب في صالح "جماعة الإخوان"، وتُقصي خصومها وحتى حلفاءها السابقين من المشهد، وما زال النظام يتّبع سياسات مبارك بمواجهة هذه الأزمات أمنيًا، والتضييق على الحريات بقوانين يجري سلقها بمجلس الشورى المنوط بالتشريع حاليًا، وأزمة تبدو مستعصية تمس شرعية "النائب العام" واستحقاق الانتخابات البرلمانية التي لا أتوقع إجراءها خلال هذا العام في ظل المناخ المحتقن في مصر، والمرشح لمزيد من العنف، وهنا تراهن قطاعات واسعة على تدخل الجيش في حال تردي الأوضاع لتصل إلى الفوضى أو الاقتتال الأهلي باعتباره مسؤولا عن حماية الجبهة الداخلية، في ظل انفلات وهشاشة جهاز الأمن، كما يسود الاعتقاد بذلك في الشارع المصري.