-1-

أصبح السلام هاجس العالم الأكبر في القرن الحادي والعشرين، بعد أن شهد القرن العشرون حربين عالميتين طاحنتين هدّمت العالم، وتركته دمارا، من أجل أن تعيش بعد ذلك في سلام.

فالسلام لا تصنعه غير أقوى الجيوش في الحروب الطاحنة، كما قال كليمنصو. فالأمم تحارب كي تعيش في سلام، كما قال أرسطو. وقد أعرب هيلموت كول أول رئيس لوزراء ألمانيا بعد الوحدة الألمانية عن هذا بقوله في 1996، إن أوروبا كلها مشغولة ومعنيّة بمسألة الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين. ولعل أكثر بقاع العالم سخونة واستعدادا للفوضى والحروب المتكررة، هي منطقة الشرق الأوسط المهمة نفطيا واستراتيجيا، نتيجة للصراع العربي – الإسرائيلي المحتدم منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان. حيث يُشكّل هذا الصراع خصوصا في شِقه الفلسطيني، واقعا سياسيا - عسكريا بالغ التعقيد وغنيا بالتقلبات المفاجئة. ذلك أنه واقع متناقض، تختلط فيه الوقائع بالتخييل، والحقائق بالأساطير، وصاغته عوامل متداخلة تاريخية وراهنة، محلية ودولية. ويزيده تعقيدا أن قرارات الفاعلين السياسيين – العسكريين فيه ـ خاصة على الجانب العربي ـ ليست من صنع مؤسسات شفافة، تتيح للملاحظ متابعة مراحل وحيثيات بلورتها، بل هي من صنع هذا القائد الملهم أو ذاك، وانفعالاته الظرفية، التي لا سبيل إلى التنبؤ بها.

إذا كانت الحرب، كما يُعرّفها المؤرخ العسكري الألماني فون كلاوزفيتز هي: "فرض الإرادة على الخصم"، فإن السلام هو بالعكس، أي التفاوض مع الخصم بحثا عن حل وسط. فثقافة السلام إذن ـ كما يقول أحد المفسرين ـ الجهاد ضد النفس؛ أي تحصين الوعي ضد اللجوء إلى العنف المجاني عبر تحكيم العقل في الهوية والأهواء.

-2-

إن السلام، هو القانون الأخلاقي والوضعي في سلوكنا، والشرعية الدولية في مطالبنا. لكن ذلك حلم بعيد المنال، ما لم يتشرب طرفا الصراع قيما مشتركة كونية. فقيم عصرنا هي قيم حقوق الإنسان المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية – الثقافية، فضلا عن القيم الديموقراطية المحايثة لها. والطريق إلى هذا كله لن يتم إلا بالتعليم والإعلام؛ لإعادة صياغة وعي المواطن بهذه القيم الإنسانية التي هي العمود الفقري لثقافة السلام.

-3-

إن مجتمع العبيد يستطيع أن يقيم الحروب، وربما ينتصر فيها في بعض الأحيان، ولكن السلام لا يقدر عليه غير مجتمع حر، ومواطنين أحرار. فالحرية والسلام لا يتجزآن. وبناة السلام لا بُدَّ أن يكونوا أحرارا.

فمجتمع العبيد هو الذي يقول لمواطنيه إن الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة، كما قال جورج أورويل (1903-1950) في روايته الشهيرة 1948. لقد ظلت الحروب هي الصوت المُجلجل في تاريخ البشرية، وهي كاتبة التاريخ الإنساني، في حين كان السلام صفحة باردة وباهتة في التاريخ الإنساني. ويقول المسرحي الألماني بيرتولت بريخت (1898- 1956) في مسرحيته (الأم الشجاعة) إن السلام لا شيء غير الفوضى، في حين أن الحرب هي التي تقيم النظام.

من ناحية أخرى، فإن الحكام هم الذين يقيمون الحروب من أجل تعظيم تاريخهم الشخصي، في حين أن لا شعب محبا للحروب. فالشعوب تحب السلام. وسوف يجيء يوم يكون فيه من المُفضَّل أن تتنحى الدول جانبا، وتترك شعوبها تنعم بالسلام. فالسلام أصعب مهمة من الحرب كما قال جورج كليمنصو (1841-1929) رئيس وزراء فرنسا في خطاب له عام 1919.

-4-

لقد كان موضوع "السلام" في الفكر العربي المعاصر، من أهم المحاور السياسية التي التُفتَ إليها ورُكز عليها، وخاصة في السنوات الأخيرة، في ظل نشوء المنظمات الإرهابية الدينية المتشددة، وفي ظل معاهدتي السلام اللتين عقدتا بين مصر وإسرائيل وبين الأردن وإسرائيل، وفي ظل اتفاقية أوسلو الفلسطينية – الإسرائيلية في 1993. فهذه الإنجازات السياسية كافة في سبيل السلام العربي – الإسرائيلي، جعلت من قضية السلام في الفكر السياسي العربي المعاصر محورا مهما.

إضافة إلى ذلك، فإن الفكر السياسي العربي المعاصر، يركز على خطورة السلام مع إسرائيل، وهو ما يجب على العرب أن يتمسكوا به، ويتوقفوا عن الاعتقاد بأن السلام سيعطي الدولة العبرية الاستقرار والهيمنة على مصادر الشرق الأوسط. وفي المقابل سيعطي العرب التبعية والحروب الداخلية. فجانب منير من الفكر السياسي العربي المعاصر، يفهم مسألة السلام في الشرق الأوسط، من مبدأ أن على الإنسان، خاصة المثقف أن يختار بين مقاربتين:

الأولى، هي التعامل مع عالم التاريخ؛ أي مع التاريخ الذي نعيشه، وهو عالم محبط. وأما الثانية، فهي الانطلاق من عالم التخييل، وهو عالم يستطيع كل إنسان أن يقيمه على مستوى خياله وأمانيه.

وعلماء التاريخ اليوم يقولون لنا أن السلام اليوم قرار دولي، وليكن خيرا، أو ليكن شرا، ولكنه على كل حال قرار دولي واقع، وإذا فشل الآن، فسيحدث غدا. فلا مهرب منه.

-5-

وهكذا، أصبح السلام في القرن الحادي والعشرين واقعا دوليا لعدة أسباب منها:

1- أن أميركا تريد أن تغلق ملف الشرق الأوسط بأسرع وقت ممكن. فقد بدأت الصين تصبح أحد أكبر المرشحين لمزاحمة أميركا.

2- من المحتمل أن تعود روسيا بعد هذا التاريخ، وهي العدوة التاريخية لأميركا إلى مزاحمتها في منطقة الشرق الأوسط. وقد ظهر واضحا ذلك في الأزمة السورية الحالية.

3- من المحتمل أن تخرج أوروبا الموحدة كقوة جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

4- الجميع سوف يحاولون الفوز بالمنطقة حيث النفط والموقع الاستراتيجي، ونصيب الأسد من السوق الدولية.

-6-

إن السلام المُراد في رأي جانب كبير من الفكر السياسي العربي المعاصر، هو "سلام الشجعان"، ولكنه ليس "سلام الشجعان" الذي كان وما زال شعارا لكثير من القادة العرب. ولكنه يعني هنا، إيجاد حل تفاوضي مشرف للقضايا العالقة كالاستيطان، والقدس، واللاجئين، والحدود، وتقاسم المياه.

إن مرجعية "سلام الشجعان" هي الشرعية الدولية.