في مقالات سابقة عديدة لي، تطرقت فيها إلى معنى الحرية، والجدلية الكبيرة الدائرة حول تعريفها من جهة، وفهمها من جهة أخرى، وكذلك التواصل مع مفهوم التحرر والحرية والحريات، وفي يوم الثلاثاء الماضي قرأت مقالاً لزميلتنا الكاتبة الأستاذة سالمة الموشي بعنوان: "لا تعط الحرية للبشر.."، رتبت كما رأت الحرية الشخصية على ضوء تجربة معينة أوردت نصها في المقال على النحو التالي: "ماريَّنا إبراموفيك، إذ قامت سنة 1974 بخوض تجربة فريدة من نوعها لتتعرف أكثر على تصرفات البشر إذا منحت لهم حرية القرار دون شرط، فقامت بالتجربة التالية:
قررت أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة دون حراك وأتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما يريدون.. ووضعت بجانبها طاولة بها الكثير من الأدوات: منها سكين، ومسدس، وأزهار.. وهكذا في بداية الأمر كان رد فعل الجماهير سلميا فاكتفوا بالوقوف أمامها ومشاهدتها، ولكن هذا لم يستمر كثيرا، فبعدما تأكد الجماهير أنها لن تقوم بأي رد فعل مهما كان تصرفهم تجاهها؛ أصبحت الجماهير أكثر عدوانية.. فقاموا بتمزيق ملابسها.. وقام أحدهم بوضع المسدس على رأسها - ولكن أحد الأشخاص تدخل وأخذ المسدس منه - وقاموا بنكزها ببطنها بأشواك الأزهار.. وتحرش البعض بها.. وبعد أن انتهت الـ6 ساعات تحركت مارينا من مكانها دون اتخاذ أي رد فعل عدواني تجاه الجماهير.. وبمجرد أن بدأت بالتحرك هم الجماهير بالفرار".
مبعث دهشتي أن نحاول تعريف الحرية بكل جدليتها الواسعة، ومحاولة اختزال قوتها في عبارات سريعة باستعراض تجربة ما. وأن ما قامت به صاحبة التجربة في الواقع لم يكن أكثر من تحريض غير مباشر على رفع مستوى الجرأة نحو اتخاذ مواقف متباينة باتجاه العشوائية أكثر، والحرية ليست كذلك على الإطلاق، فالارتباط بالعشوائية لن ينتج سوى المزيد من الأخطاء وتكديس المزيد من السلبيات، وعليه فالناتج السلبي يصعب ربطه بالحرية الصالحة (العاقلة) مباشرة، فمثلاً الحرية المطلقة التي يتمتع بها الحيوان البري (غير العاقل)، ليست كتلك التي يتمتع بها الإنسان (العاقل)، ومن غير المنطقي أن نرمي بوزر نتائج تلك التجربة على روح الحرية بأكملها هكذا! فالحرية بهذا المفهوم تقتل من الوريد إلى الوريد، وتصادر من مضامينها، فالإنسان العاقل عندما تتم تنظيم حريته يكشف عن مخلوق نبيل عظيم، وحين يُساء تقديم الأمور لديه فأنت إنما تدغدغ الرغبات الكامنة في داخله، ثم بعد ذلك تذهب لإلقاء التهمة على الحرية.
إن ارتباط الحرية بالأخلاق كان دوماً محل جدال واسع، فالمعنى المطلق للحرية لا يقبل التقييد بأي شيء كان، وهنا ندخل إلى معنى أوسع بكثير من الحالات التي نقيم عليها تجاربنا، لتقييم شيء ما من جملة أشياء كثيرة تُعنى بها الحرية، وربط الحرية بالفساد هو إجحاف أكبر، فالحرية تتناقض مع مفهوم وروح الفساد، فالطيور التي تمارس حريتها في التحليق عليها أيضاً أن تراعي حرية الآخر في ممارسة حرية الطيران والتحليق، ولا أتخيل أن أنظر يوماً إلى الحرية من منظور التصرفات غير المهذبة، وأربطها مباشرة بالحرية. وأتوقع أن الزميلة (سالمة الموشي) كانت تود أن تقول من خلال عبارتها "الحرية المقيدة"، (الحرية المنظمة)، لأن الفارق كبير وعميق وشاسع بين الأمرين، فالتنظيم هو فقط ما تحتاج إليه حرية الإنسان، لينعم بكل ما حوله من جمال إنساني وأخلاقي، ومنح الحرية المطلقة هو عمل لا أخلاقي في حد ذاته، فذلك كمن يمنح السلاح للمجانين.