الأجندات الخارجية لعبت دوراً مهما في تأجيج الشارع العراقي، وهؤلاء ليسوا سوى أدوات تستخدمها قوى مدفوعة من الخارج لإسقاط الحكومة والقضاء على النظام السياسي.. بهذه الحجج المكرورة والأسطوانة المشروخة وصف رئيس الوزراء نوري المالكي انتفاضة الأنبار، فكانت كلماته سبباً مباشراً في اشتداد غضب المتظاهرين في تلك المحافظة التي ارتفعت فيها أصوات المتظاهرين المطالبين بإقرار قانون العفو العام، وإطلاق سراح السجينات البريئات. ولم تلبث الثورة أن أقنعت الآخرين بعدالة مطالبها، فامتدت إلى محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك، بعد أن تمادت الحكومة في استهداف رموز سنية، بدءاً من نائب الرئيس طارق الهاشمي وأخيراً وليس آخراً وزير المالية رافع العيساوي الذي اعتقلت قوة خاصة تابعة للمالكي أفراد الحماية الخاصة به، فانطلقت شرارة الثورة التي أثبتت سلميتها، وأنها لا تحمل أي أجندات خارجية، إنما تعبِّر عن رغبة الجماهير في تحقيق مطالبهم، والضغط على الحكومة للاستجابة لها. وشدد منظموها على أنهم سيستمرون في تنظيم الاحتجاجات حتى تحقيق مطالبهم كافة، مؤكدين في الوقت ذاته أنهم لم يعودوا يصدقون وعود المالكي بإطلاق سراح المعتقلين لاسيما النساء منهم، رافعين سقف مطالبهم بتغيير جوهري للعملية السياسية ومنع رئيس الوزراء من احتكار السلطة. ولم تختلف مطالب المتظاهرين في الأنبار عن نينوى وديالى وكركوك وصلاح الدين، وبمجملها تلخص حقيقة إجراء إصلاحات جذرية في العملية السياسية، وبناء دولة عصرية تضمن حقوق جميع مكوناتها.
الهروب للأمام
مع تصاعد حركة الاحتجاج في المحافظات ذات الأغلبية السنية دعا رئيس الحكومة إلى إجراء انتخابات مبكرة في محاولة للوصول إلى خريطة برلمانية جديدة تعيد تشكيل الحكومة بأغلبية سياسية، لكن الدعوة قوبلت برفض معظم القوى المشاركة في العملية السياسية، التي وصفتها بأنها محاولة للهروب إلى الأمام. حيث قال النائب عن التحالف الكردستاني محسن السعدون "الوقت الحالي غير مناسب لإجراء انتخابات مبكرة في البلاد، لأنها بحاجة إلى تشريع قانون جديد لها، فضلاً عن تشريع قانون الأحزاب". ودعا المالكي إلى إيجاد حلول للأزمات التي تمر بها البلاد، وتفعيل خيار حكومة الشراكة الوطنية طبقاً لبنود اتفاق أربيل، بدلاً من التلويح بالانتخابات المبكرة." وبدوره حذر النائب عن القائمة العراقية حامد المطلك من اعتماد هذا الخيار بقوله "إجراء الانتخابات لن يسهم في حل الأزمة، لأنها قد لا تأتي بقوى جديدة، وستكون لذلك تداعيات خطيرة على الأوضاع في البلاد. في ظل تفاقم الأزمة الحالية، ودعوة المالكي تأتي في إطار الضغط على شركائه السياسيين".
مطالب المتظاهرين
في البداية رفض المتظاهرون مشاركة شخصيات سياسية خشية استخدام الاحتجاج لتحقيق مكاسب حزبية أو فئوية، وكانت شعاراتهم تطالب حكومة المركز بوضع حد لما أسموه بالتهميش المفروض عليهم في شتى المجالات، وإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات في السجون العراقية، مهددين بعصيان مدني في حال لم تتحقق هذه المطالب. ويقول الأستاذ الجامعي وأحد المنظمين لتظاهرات الأنبار الدكتور عبدالرحيم الهيتي "نحن نطالب برفع تهميش المحافظة في شتى المجالات، ومنها الوظائف والموازنة، ومنح الحقوق وتوفير فرص العمل بمبدأ التوازن، ونبذ النظرة الطائفية، وكذلك نطالب بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات الأبرياء من السجون العراقية". وأضاف "بمشاركة رجال الدين والنخب الثقافية سنستمر بالتظاهر، لأن صبرنا نفد لعدم حصولنا على حقوقنا المشروعة بالإفراج عن المعتقلين الأبرياء وإجراء مصالحة وطنية حقيقية وإعطاء المحافظة حقوقها كاملة حسب ما نص عليه القانون والدستور".
وبدورها ترجِّح النائب عن القائمة العراقية وحدة الجميلي اتساع قاعدة الاحتجاجات الشعبية إذا لم تذعن الدولة لآراء مواطنيها، وتقول "ستتواصل الاحتجاجات والتظاهرات ولن تنتهي بسبب قناعة المواطنين بفشل الحكومة في تلبية مطالب المواطنين، وعجزها عن توفير أدنى الخدمات لهم، واتساع البطالة، وتفشي الفساد، واحتكار مؤسسات الدولة من قبل أحزاب بعينها، واعتماد أسلوب المحاصصة في توزيع المناصب، ولكل ذلك أصبحت الوزارات مغلقة، والتعيينات تقتصر على مؤيدي وأنصار حزب الوزير".
إذاعة الشباب
"هنا إذاعة شباب ثورة الأنبار" .. صوت آخر جاء هذه المرة من خلال المذياع، بثته محطة إذاعية مدعومة من شباب الثورة وشيوخ العشائر والوجهاء، لتتولى بث البيانات والخطابات للمعتصمين، في مدار بث امتد لأكثر من 40 كم تقريباً. ويقول المشرف على الإذاعة المهندس إحسان الدليمي لـ "الوطن" "نسعى ليصل مدى البث إلى كل مدن المحافظة والمحافظات الأخرى خلال الأيام القليلة المقبلة. والغرض من الإذاعة أن تكون منبراً حراً لمطالب المعتصمين، ولن نسمح لأي جهة سياسية أو حزبية بالتدخل في إدارة الإذاعة الناطقة باسم شباب الثورة ولنقل ما يجري من موقع الاعتصام دون قطع أو تشويش متعمد". وأشار إلى أن جميع المطالب التي ستصدر من المعتصمين سيتم بثها عبر الإذاعة التي تعمل بتمويل ودعم وإشراف الشباب فقط".
سياسة الملفات
ولا ينسى أعضاء البرلمان ما حدث بين المالكي ونائب جبهة التوافق عبدالناصر الجنابي خلال الدورة التشريعية السابقة، حيث هدده رئيس الوزراء بالمحاكمة، وقال له على مسمع الشهود "سأفتح ملفك وأقدمك للقضاء بتهمة ارتباطك بتنظيم القاعدة وتنفيذ عمليات إرهابية شمال محافظة بابل"، وقرن ذلك القول بالفعل، وكانت النتيجة أن جُرِّد الجنابي من حصانته البرلمانية، وغادر البلاد تلاحقه مذكرة قضائية. وكانت تلك الواقعة هي بداية اعتماد المالكي ما أصبح يعرف باسم "سياسة الملفات" للإطاحة بالخصوم، وبعد أن تولى المنصب في ولاية ثانية عاد لهذا الأسلوب واستخدمه ضد نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، فأحيل عدد من عناصر حمايته للقضاء، وصدرت بحقهم أحكام بالإعدام طالت الهاشمي أيضاً. ويرى المحلل السياسي محمود الحديثي في اعتماد هذه السياسة انتهاكاً لقواعد حكومة الشراكة الوطنية، وكان عزت الدوري نائب الرئيس السابق صدام حسين قد أعلن دعمه للمحتجين حتى تتحقق كل مطالبهم العادلة في إسقاط ما سماه "الحلف الصفوي الفارسي"، في إشارة إلى العلاقة الوطيدة بين حكومة المالكي وإيران. واتهم في شريط فيديو مدته 53 دقيقة بثته بعض مواقع الإنترنت حزب الدعوة وزعيمه المالكي بتنفيذ مخطط واضح "لتدمير العراق وإلحاقه بإيران".
تسييس القضاء
منذ إصدار مذكرة اعتقال الهاشمي أعلن المالكي في أكثر من مناسبة رفضه تدخل أي جهة سياسية في أمر القضاء، وبعد اعتقال عناصر حماية العيساوي تكرر الحديث نفسه، حيث سارع المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى عبد الستار البيرقدار لإعلان أنه تم توقيف 9 أشخاص فقط من أفراد حماية العيساوي بأوامر قضائية وفق المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، وأن آمر فوج الحماية اعترف أثناء التحقيق معه بقيامه بأعمال إرهابية. وتعليقاً على ما يقال بخصوص استقلالية القضاء قال رئيس كتلة ائتلاف القائمة العراقية سلمان الجميلي لـ "الوطن" "المالكي أعلن أنه سيحاسب المسؤولين عن اعتقال نساء بجريرة ذويهن أو دون صدور أوامر قضائية، وهذا الاعتراف وحده يكشف عن حقيقة القضاء، فنحن لم يسمح لنا بحضور جلسات التحقيق مع عناصر حماية الهاشمي والعيساوي، وأغلب المعتقلين يخضعون للتعذيب للحصول على اعترافات ضد المسؤولين لغرض الإسقاط السياسي، وهذا ما حصل مع قيادات القائمة العراقية أمثال الهاشمي والعيساوي. كما أن المالكي يدعي امتلاكه ملفاً ضد وزير ماليته وضدي شخصياً، إضافة إلى النائب أحمد العلواني بأننا نرتبط بفصيل مسلح يدعى حماس العراق، وإذا كانت مقاومة الاحتلال الأميركي تهمة فنحن نتشرف بها ومن المعيب أن يلوح المالكي بهذا الملف، بعد أن خرجت القوات الأميركية من العراق".
تداعيات الأزمة
رغم سلمية تظاهرات الأنبار، ورغم حصولها على تأييد شعبي منقطع النظير من مكونات الطيف السياسي كافة، حيث لم يقتصر مؤيدوها على السنة فقط، بل تعاطف معها الأكراد وبعض الشيعة الحانقين على أداء الحكومة، وفي مقدمتهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي هاجم المالكي وبشَّره برياح "الربيع العربي"، ووصفه بأنه ديكتاتور متسلط ويعمل على إقصاء الآخرين، مؤكداً أن العصيان المدني هو الخيار الأخير لحل المشاكل. وأضاف خلال مؤتمر صحفي عقده بمقر إقامته بمنطقة الحنانة في مدينة النجف "هذه الحكومة لم تحقق منفعة للشعب العراقي خلال الفترة الماضية، ولا بد للمالكي من النزول إلى الشارع للاستماع لمشاكل المواطنين". برغم كل هذا المد الشعبي إلا أن هناك مخاوف من أن تأخذ الأزمة أبعاداً تندرج في إطار تأجيج الاحتقان الطائفي، وهو ما أشار إليه الصدر الذي عاتب بعض المتظاهرين لرفعهم صور الرئيس السابق صدام حسين، وهو ما منعه من الانضمام لصفوف الثائرين، حسب قوله. وفي ذلك يقول النائب عن ائتلاف دولة القانون علي الشلاه "التظاهرات رفعت علم صدام والجيش السوري الحر وانطلقت منها شعارات طائفية" مؤكدا حرص الحكومة على تنفيذ المطالب "ما دامت منسجمة مع القانون والدستور".
إلا أن النائب عن القائمة العراقية جمال الكيلاني نفى وجود هذه الاتجاهات الطائفية لدى المتظاهرين، ووصف التظاهرات بأنها محاولة لتصحيح مسار العملية السياسية، وقال "في الخامس والعشرين من فبراير في 2011 وصف المالكي المتظاهرين في ساحة التحرير بأنهم بعثيون معادون للنظام ويريدون إسقاطه، وهذه تهمة جاهزة اعتادوا توجيهها للمعارضين، إلا أنه لا يجوز إطلاقها على ملايين المتظاهرين الذين رفعوا أصواتهم تعبيراً عن رفضهم للأداء الحكومي على المستويات كافة، من فساد وتراجع أمني وحملات اعتقال ومداهمة وتفتيش تطال المواطنين بتهمة الإرهاب، لذلك جاءت ردود الأفعال بانتفاضة واسعة لن تتوقف إلا بعد إذعان الحكومة لمطالب الجماهير".
وبدوره شدَّد رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب عن التحالف الكردستاني خالد شواني على اعتماد إجراءات سريعة لاحتواء الأزمة، نظراً للظروف المعقَّدة التي تشهدها المنطقة، وقال "ظروف المنطقة ومجريات الأحداث في سورية تتطلب تفعيل مبدأ حكومة الشراكة الوطنية، وحث البرلمان على إصدار التشريعات المتعلقة بالنظام السياسي، بدءاً من قانون الأحزاب، وتعديل الدستور والنظام الانتخابي، وهذه وردت في ورقة الإصلاح التي تبناها التحالف الوطني الذي يقود الحكومة، ولكن للأسف لم تر النور بسبب فشل عقد المؤتمر الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية جلال طالباني"، مشيراً إلى إمكانية تدارك الأزمة الحالية بمعالجات جدية تعيد ثقة الشعب بحكومته والقوى السياسية.
مشروع بايدن
اندلاع التظاهرات واليأس من إصلاح حكومة المالكي التي تفتعل المشكلات وتصطنع الأزمات مع شركائها السياسيين كافة من سنة وأكراد، أعاد لأذهان معظم العراقيين مشروع نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن بتقسيم العراق لثلاث دول، شيعية وسنية وكردية، وقد حذر الأكراد من تجدد هذا السيناريو حيث قال النائب الثاني لرئيس مجلس النواب عارف طيفور في تصريح صحفي "الوضع العراقي بشكل عام سيئ، والعلاقات بين الشيعة والسنة متدهورة جداً، إلى جانب سوء العلاقات بين الأكراد والأطراف العراقية الأخرى"، مشيراً إلى أنه يرجِّح تنفيذ مشروع جو بايدن لتقسيم العراق، محذِّراً من اندلاع حرب طائفية في حال استمرار الأزمة الحالية". إلا أن القيادي في القائمة العراقية وممثِّل محافظة الأنبار في البرلمان أحمد العلواني استبعد إمكانية تنفيذ مشروع بايدن لرفضه من معظم القوى، لأنه يفضي إلى تقسيم البلاد، وقال "مشروع بايدن مرفوض وهو وصفة أميركية طرحت من قبل واشنطن لغرض تفادي اندلاع الأزمات المتكررة بعد أن وقفت إلى جانب المالكي ودعمته بتناغم إيراني ليتولى منصبه لولاية ثانية".
ويرى المحلل السياسي عبد الجبار الجبوري في المشروع اعترافاً أميركياً بفشل التجربة الديموقراطية في بلاد الرافدين، ويقول "مشروع بايدن يؤكد فشل واشنطن في إرساء الديموقراطية في العراق وهو يقضي بتقسيم البلاد إلى دويلات وطوائف طائفية وقومية، سنية، شيعية، كردية لمعالجة وضع سياسي كارثي متأزم وصل حد الانفجار بين الكتل السياسية التي تدير الحكومة، بسبب تعنت الحزب الحاكم واستحواذه على مناصب أمنية غاية في الأهمية مثل وزارتي الداخلية والدفاع، وإدارة الأمن الوطني، يصاحب هذا تدخل إيراني مباشر في الشؤون الداخلية وتأجيج النعرات الطائفية". وحمَّل رئيس الوزراء مسؤولية ما يحدث قائلاً "المالكي وضع نفسه في زاوية حرجة، نتيجة سياسته الطائفية التي أثبتتها الوقائع على الأرض، من إقصاء وتهميش، وعدم توازن، وتفعيل قانون الاجتثاث بحق أساتذة الجامعات، والاعتقالات العشوائية لكبار ضباط الجيش السابق، واستشراء ظاهرة الفساد الإداري والمالي بشكلٍ فاضح من قبل كبار مسؤولي الحكومة، والأحزاب الرئيسة في العملية السياسية. فكل هذا الخراب والتهميش والإقصاء والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية والمدنية أجَّج حالة الاحتجاج".
مشوار التراجع
أمام إصرار المعتصمين وتأكيدهم على استمرار ثورتهم حتى تحقيق جميع مطالبها، وبعد انضمام عشرات الزعماء الدينيين والسياسيين ووجهاء العشائر، وبعد تحذير كثيرٍ للحكومة من خطورة الوضع، شعر المالكي بالخوف، وبدأ في تقديم التنازلات، تصريحاً تارة، وتلميحاً تارة أخرى، حيث أعلن عدم مسؤوليته عن تعثر إلغاء قانون الإرهاب في البرلمان، داعياً القوى المطالبة بإلغائه إلى تقديم مشروع بذلك في أسرع فرصة. كما وافق على بعض من يفاوضونه على إطلاق سراح النساء المحتجزات بالسجون العراقية، إلا أن شباب الثورة أعلنوا صراحة أن هدفهم ليس تحقيق بعض المطالب الآنية، إنما إصلاح العملية السياسية برمتها، والقضاء على أشكال التهميش والإقصاء كافة، وانتهاج أسلوب المشاركة السياسية، للقضاء على التفرد والسيطرة.