حين يتقدم الإنسان بمعاملة يشرح عليها الموظف بعبارة "لا مانع وحسب النظام"! ولكن ما معناها؟ هل فعلا هي النظام أم إنها ميتة في النظام الميت؟ وهل كلمة لا مانع تعني لا مانع أم كل مانع؟ لنفكك الكلمة؟

في الواقع معناها أنه لن يحدث شيء، ومعناها زحلقة الحالة إلى المجهول، ومعناها تبرئة النفس وتعليق الآخرين، ومعناها أخيرا ارتحت وتعذب الآخرون.

هذه الجملة معناها ليس من قرار ولا استقرار بل دوران في آلة البيروقراطية مثل حمار الرحى حتى يهلك ويسقط.

ومعناها أيضا الفرق بين روح المبادرة وروح التنحي والانسحاب من اتخاذ قرار مسؤول، ويعتبر من يكتبها أنها شطارة وزحلقة الحالة بدبلوماسية وحذلقة بهلوانية.

وهي في الحقيقة إعاقة وعضل وتعطيل المصالح.

كثيرة هي المعاملات العالقة في مصيدة هذه الجملة القاتلة الغامضة برصاصة من مجهول، فكلما جاءت قضية لاتخاذ قرار فيها جاءت هذه الجملة المريبة المعطلة.... لا مانع وحسب النظام؟

ومعناها قذفها للمجهول؛ فمن الذي سيأتي بالنظام المجهول وكل لوائحه الإدارية ويبدأ في تنزيلها بالمسطرة على الحالة، وما أكثر الحالات وأقل اللوائح الإدارية!

لقد عشت في الفضاء الألماني في رحلة الاختصاص فعشقت عندهم عشقهم وولعهم بالتفصيلات. وأول ملاحظة لي كانت أنهم يسيطرون على مشاكلهم في كل زاوية بابتكارات وتفصيلات لا نهاية لها، مثل سير الباصات والعملة النقدية وسير القطارات والبنوك وصلاحيات الموظف الوحيد.

تعجبت جدا من سير الباصات من آلة مسجلة محسوبة المسافة والزمن بدقة خرافية، بل فوجئت أكثر بزمن انطلاق القطارات ولم تصدق عيناي حين فاتني القطار لأنني تأخرت دقيقة من الزمن! وكان انطلاقه في الساعة 11 والدقيقة 11 ، وظننت أنهم يمزحون، وتبين لي أن الأمر جد دفعت ثمنه، فلم يكن من السهل ترتيب رحلة من جديد من أقصى الشرق في مدينة زيلب الصغيرة في بافاريا إلى مدينة هامبورج في أقصى الغرب في السارلاند.

والثاني كان في موضوع العملة النقدية، فعندهم وفي كل المحلات من توافر النقد المعدني الكمية الكافية، وكل من اشترى يدفع ويتلقى "الفرافيط" من العملة المتوفرة، فلا يقفز من دكانه ومحله ويترك عمله بحثا عن "الفراطة"، بعد أن أصبح أمره فرطا! والسنت الوحدة النقدية موجودة وليست عملة نظرية كما هو الحال مع الهللة الشبح. هل رأى أحد منكم هللة واحدة؟ وأهمية هذا أن العمود الفقري للنظام النقدي الأوروبي يقوم على هذه الهللة، عفوا السنت! وجرى المثل الأمريكي انتبه للسنت أما الدولار فيتدبر أمره بنفسه!

وتعجبت ثالثا من الصلاحيات الممنوحة لموظف واحد، أن يمنح الإقامة السنوية لنا نحن الأجانب بختمه في صفحة واحدة، وهذه الإقامة والختم يسري مفعولهما على كل الأرض الألمانية!

إنني أذهل حين أرى معاملة إخراج التأشيرات وأنها يجب أن تمر على دورة عجيبة من عشرة تواقيع تحت مسمى إخلاء الطرف.

والأمر الهام والهام جدا هو الفرق بين روح المبادرة وروح الانقباض؛ وشرح ذلك أن أيا في مكانه يعمل بروح الفريق متطوعا متعاونا، فهذا هو سر قوة المجتمع الألماني. والبارحة تلقيت رسالة من السيد ألكسندر يونج من دويتشي بانك في مدينة آخن، حيث ما زال عندي حساب في ألمانيا، وكنت قد أرسلت رسالة إلى موظفة أخرى في البنك، فتلقى مهمة الجواب فورا، وقال إن من ذكرت من الموظفين لم يعودوا موجودين، وعن أي استفسار اتصل عليّ وأنا سأوافيك بالجواب. قلت في نفسي: انظر إلى صحوهم ويقظتهم ونومنا وتكاسلنا.

بكل أسف أصبنا بداء المقارنة، وفسدت طباعنا من هذه الجهة، ودوما نقوم بالمقارنة: لماذا كانوا فعالين وكنا كسولين؟ أهو المناخ؟ أهي الثقافة؟ لماذا تتعطل المعاملات وتتكوم على الطاولات، وتموت في الأدراج تحت كلمة "حسب النظام"؟؟ وليس من نظام بل كسل موظف وتقاعسه.

زميلي المهندس جميل، غشه رجل في بيع سيارته، وما زال يطارده للإمساك به، مع صدور قرار محكمة بالتنفيذ، منذ سبع سنين عجاف. ودخل دورة الشيطان البيروقراطية، وربما صرف من المال والجهد والوقت أكثر من قيمة سيارته المسروقة في وضح النهار. ومازال" حسب النظام" ولا مانع من استرداد حقه المسروق!