صدر للتو كتاب بعنوان "العصر الرقمي الجديد" إعادة تشكيل مستقبل الناس والدول والأعمال" وأهمية الكتاب تأتي لسببين، السبب الأول: أن مؤلفَيه يعملان في المجال الرقمي وهما: Eric Schmidt رئيس شركة Google حالياً والمدير التنفيذي السابق لها وعضو سابق في مجلس إدارة شركة Apple وهو من أشهر الشخصيات في شركة قوقل.
والمؤلف الثاني Jared Cohen وهو شاب يعمل "مديراً للأفكار" في شركة Google.
والسبب الثاني الذي أكسب هذا الكتاب أهمية أنه يتحدث عن التحول الكبير الذي طرأ على عالمنا في الألفية الثالثة بسبب اتسام هذا العصر بما يسمى "الرقمية" التي تعيد صياغة مستقبله برمته وبمكوناته الأساسية: الناس والدول والأعمال.. وقبل أن يعلن عن الكتاب بالنيويورك تايمز قفز الكتاب لقمة قائمة المبيعات بشكل مذهل وسريع.. استثمر المؤلفان مصادر المعلومات التي يتربعان عليها وعلاقاتهما وذكاءهما لإثراء مادة الكتاب وتحليل عصرنا الرقمي بطريقة غير مسبوقة.. والنتيجة كانت هذا الكتاب المليء بالفكر الجديد والشواهد والأمثلة المبنية على البحث العلمي والإبداع التي جعلت المتخصصين في التقنية والناس العاديين على السواء يسمع لهم "طنين"، كما يقولان، حول هذا الموضوع ويفكرون بعمق حول مستقبل عالمنا. بدأ الكتاب بالحديث عن الفكرة القديمة: "هناك عالمان" عالم رقمي وعالم واقعي أو ماديBoth Digital and Physical Worlds، ثم قام المؤلفان بالتوسع في هذه الفكرة وتمديدها ليقولا إنه قد وصل إلينا مدنيتان.. إحداهما تطورت خلال آلاف من السنين والأخرى ما زالت في دور "الحضانة".. واحدة يتسم عالمها بالقدم في الثقافة والدولة والحكومة والمؤسسات وبناء القوة والقوانين والأخرى عالمها "ديناميكي" وغير متحكم فيه وفوضوي Anarchistic.. عالمها حدوده مسامية Porous.. وقوانينه وقواعده غير واضحة، والقوة فيه مرنة وموزعة ومنتشرة.. وبينما يعيش هذان العالمان في وقت واحد، كل واحد منهما يحاول كبح الجوانب السلبية في الآخر.. ومن هنا يبدأ الصراع.. وخلافهما يتفاقم مع مرور الزمن..
ويشير الكتاب إلى أنه خلال السنوات العشر القادمة سيرتفع عدد مستخدمي الإنترنت من 2 بليون ميسور إلى 7 بلايين يستخدمون الإنترنت.. 5 بلايين آخرين بحكم الضرورة.. وينصح الكتاب بأننا يجب أن نهيئ أنفسنا للتشويش "Disruption" والتمزق. والكتاب يستشرف الوصول إلى تلك المحطات دون أن يوضح كيفية الوصول إليها.
النتيجة .. أن هذا الكتاب يحتوي على تنبؤات عن قضايا مثل مستقبل الدول والثورة والإرهاب والصراع والحرب والمواطنة والهوية، لكن الحديث حول هذه القضايا قد لفه الكثير من الغموض.. وقد ذكر بأن كل تلك الجوانب سيصلها تأثير العالم الرقمي، لكن المؤلفين لم يقولا لنا كيف سيتم ذلك..
ولم يعرضا حتى رأياً واضحاً حول ذلك.. وإذا ما كان هناك إلماحة أو رأي، فإن ما عُرض من آراء قد لفها الكثير من الغموض الذي يمنع الوصول إلى ما يمكن عمله أو كيفية التعامل مع المستجدات التي ستؤثر في تلك الجوانب.. وقد يكون ذلك غير واضح لمؤلفي الكتاب.. وقد يكون ذلك بسبب الخوف من تأثير آرائهما سلبياً على شركة Google التي يترأسانها، والتي تلعب دورا ضخماً في العالم الرقمي والتحول الكبير الذي يطرأ على عالمنا بسببه.
لم يرسم لنا خبيران يعملان في جوجل صورة وردية كما هو الحال في الخدمات التي تقدمها هذه الشركة العملاقة للعالم، وبدلاً من ذلك أوردا لنا الكثير من الأمثلة على كيفية التأثير السلبي للعالم الرقمي علينا كدول ومؤسسات وحكومات وأعمال وأفراد.. فعلى سبيل المثال يمكن بسهولة تشويه سمعة الناس والقدح في شرفهم الذي يعتبر أغلى رصيد لديهم، مما يؤدي إلى صراعات في العائلات المتحفظة.. ويمكن اختراق الرسائل وتغيير محتواها.. يمكن السيطرة على الأفكار من قبل الدول والهيئات والمنظمات والنشطاء وتوجيه آرائهم ومواقفهم إلى وجهة تتماشى مع أهداف تلك الجهات.. انحدار الآراء الشخصية بسبب قوة تأثير بعض الجهات على الناس.. انكشاف كل مستور عن طريق الكاميرات الجاهزة للتصوير على مدار الساعة ومن قبل كل الناس، حيث أصبح التصوير والبث في متناول كل الناس.. توفر ما يسمى باللجوء الإنترنتي.. حيث أصبح بإمكان أي فرد طلب لجوء "إنترنتي" لأي دولة تمكنه من نشر ما يريد إذا لم يتمكن من نشر ما يريد في نظام الدولة التي يقطن بها.. وهذا أمر جديد لم أسمع به من قبل.. وظهر ما يسمى "التعددية الافتراضية" التي تعني حرية نشر المعلومات عن الدول والأشخاص لأي هدف، حتى لو كان للتشويه، ومؤسسة Wikileaks مثال على ذلك.. وجود المعلومات بصورة دائمة وعدم القدرة على إزالتها. وإرهاب المعلومات عن طريق سرقة الأسرار التجارية واختراق المواقع الإستراتيجية، مثل وزارات الحرب والبنوك.. واختراق أنظمة الدول.. إلخ. وبالنسبة للدول فقد ولى زمن الأيام السهلة لسياسات داخلية وخارجية، حيث يؤكد المؤلفان أن قوة العالم الواقعي للدولة لا يضمن قوة عالم افتراضي لها.. ولهذا أصبح على الدول أن تبحر في أمواج متلاطمة بين عالمين متناقضين فيما يتعلق بسياساتها الداخلية والخارجية.. وثورة عبور المعلومات إلى كل نقطة في الكرة الأرضية والتأثر بذلك لعبور وسهولة الاتصال بين الأفراد والجماعات، والقضاء على صعوبات اللغة وتعدد مصادر الفكر.. ظلم بعض الناس عن طريق الاشتباه فيهم عند نشر صور مطلوبين مباشرة والاحتفاظ بهم لفترة من الزمن.. ظهور ما يسمى Digital caste system، حيث تتحدد خبرات الناس حسب مستواهم الاجتماعي، وتكون الحماية من سلبيات التقنية للميسورين نسبياً (2 بليون) ومتدنية للبقية (5 بلايين).
وهنا أعرض رأياً شخصياً بأن تتصدى الجامعات، من منطلق صميم مهامها بالبحث العلمي، وأيضاً من صميم مهامها لخدمة المجتمع، بإعداد دراسات حول كيفية التصالح مع العالم الجديد وعدم التصادم معه.. العالم الواقعي، بالناس والدول والحكومات والأعمال، لا يمكن أن يصمد في وجه العالم الرقمي. هذا ما هو متوقع..
انتهت المساحة ولم ينته الحديث عن الكتاب وهو جدير بالقراءة والاطلاع، وموضوعه جدير بالبحث المعمق والدراسات المستفيضة.