ضمن عروض مهرجان المشاهد العربي للسينما العربية في العاصمة الأميركية واشنطن التي حازت على اهتمام وإقبال من المتابعين فيلم "London River" للمخرج الفرنسيRachid Bouchareb وهو فيلم جاد ذو روح أوروبية ألقى إطلالة قوية وصارمة على قضية الإرهاب في العالم. يتخذ الفيلم من لندن 2005 مكانا وتوقيتا للأحداث. نعلم تماما أن الإرهاب ضرب لندن في صيف تلك السنة ضربة قوية.. تفجيرات متزامنة في وسائل النقل، الحافلات والقطارات. كنت من الذين شهدوا الأحداث في حينها.. اختار الإرهاب مدينة لندن التي هي عنوان على أحد أكبر أنواع الاختلاط البشري في العالم. هذه علامة لندن الكبرى.. هذا الاختلاط الكبير بين الأعراق والأجناس والطوائف في هذه المدينة الجميلة. هذا المشهد ذو معان عميقة. جوهر الإرهاب كما تقول حنّة أرندت هو رفض الاختلاف والتنوع. ولدى هابرماس الإرهاب هو المقابل للتواصل. الإرهاب قطيعة حادة وفصل حاد بين الجماعات البشرية. لذا فليس من المستغرب أن يستهدف الإرهاب الأماكن المعدة للتواصل بين الناس على مختلف مستوياتهم وتنوعهم. المتطرّفون وهم عصب الإرهاب يعملون يوميا على رسم حدود فاصلة بين الجماعات. ينطلق هذا الفصل من خلال حدّ الجماعة بتعريف حاد يخرج من الجماعة من يخرج عن هذا التعريف. التكفيري الإسلامي مثلا يطرد الناس من دينهم الذي اختاروه بسبب أنهم لا يوافقون تعريفه لهذا الدين. المثقف الذي يفكر بآلية التكفيري يمارس العمل ذاته، الليبراليون الذين لا يوافقون تعريفه لليبرالية مثلا هم خارجها. التفكير المتطرف هو عمل موجه لهويات الناس.. بمعنى أن المفكر المتطرف يعتقد أن تحديد هويات الآخرين هو من صلب عمله الفكري أو السياسي أو الاجتماعي. هذا النمط من التفكير يتصدى لسؤال من أنت؟ فهو يعتقد أن من حقه تحديد هويات الناس.. وليس فقط تحديد هويات أفكارهم وسلوكهم. الإرهابي يخطو خطوة واحدة للأمام ويقوم بقتل من يخرجون عن تعريفه.

هذا هو إذن أخطر وضع يمكن أن يواجه الإرهاب.. الاختلاط والتقارب السلمي.. المدن الكبرى تخيف الكثيرين بفتحها الأفق لعالم جديد مختلف وربما مجهول. جمعت تفجيرات لندن في هذا الفيلم مسلما أفريقيا يعيش في فرنسا مع فلاحة إنجليزية قدمت من الريف البريطاني. الاثنان قدما للبحث عن أبنائهما الذين اختفوا بعد التفجيرات. تدور أحداث الفيلم حول العلاقة التي ستنشأ بين هذا الرجل وهذه المرأة. نحن هنا أمام جيلين الأول يمثل الثقافات التقليدية.. متحفظة من بعضها، لديها مواقف حادة من الآخر، لم تعتد على الاحتكاك معه وتفضل البقاء على مسافة منه، هذا الوضع في أحسن الأحوال، أما في أسوأها فالعداء والحرب. الجيل الجديد، جيل لندن الحديثة لم يعرف كل هذا، هو جيل نشأ على الاختلاط والانفتاح، لم يعرف في حياته مكان عيش محصور على جنس أو دين واحد. لا يفترض أن نبالغ هنا فمفجري لندن هم جزء أصيل من لندن ذاتها.. هذا التواصل الحديث يحمل في داخله أيضا أعداء التواصل الذين يستعملونه لقطعه.

هنا يحقق الإرهاب عكس ما يهدف له. فإذا كان الإرهاب يخطط لتفريق الأجناس والأعراق والأديان وإعادة العالم إلى حالات الانفصال السابقة فإن النتائج ربما تذهب في الاتجاه المقابل. خوف الإرهاب يجمع الناس من جديد بل حتى يجمع الأجيال القديمة التي اعتادت على الانفصال والعزلة. الفلاحة الإنجليزية والمسلم الأفريقي والمجتمع الإسلامي داخل لندن يتعرفون على بعض أكثر بعد الإرهاب وكأنهم يرون بعضهم لأول مرة. قامت بدور الأم الإنجليزية الفنانة الكبيرة Brenda Blethyn وقام بدور الأب الأفريقي الرائع Sotigui Kouyaté. مع هذين النجمين ظهر الفيلم بصورة فخمة جدا. شخصيات متقنة معبرة.. نجوم كبار جعلونا في قلب الحدث تماما.. كيف تنصهر مع الوقت الحواجز التي تحيط بعقولنا وقلوبنا وتحرمنا من رؤية الآخرين. هل نحتاج دائما إلى هزات قوية تساعدنا على الإفاقة؟ ألا يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة بتكلفة أقل؟ هل نحتاج أن ندفع أغلى ما نملك من أجل ذلك كما فعل عصمان وإلازبث في الفيلم؟ هذا سؤال مطروح اليوم على كل الثقافات والحضارات والمؤسسات الأممية. مطروح على العقول والقلوب الكبيرة لأنها وحدها قادرة على فهم ما يجري. الإرهاب يطرح أكبر أسئلة العصر ويعيد الإنسان إلى التفكير مرة أخرى في الإنسان ذاته.

هذا الفيلم يطرح القضية الجوهرية في العالم اليوم. العالم الذي يتحرك بسرعة في طريق التواصل عبر الاتصالات الحديثة التي فاقت سرعتها استيعابه وفهمه، وفي ذات الوقت لا يملك الأخلاق القادرة على تنظيم هذا التواصل. أغلب المنظومات الأخلاقية اليوم هي منظومات نشأت وتأسست في عصور لم يكن التواصل البشري حادا بهذا الشكل. تلك المنظومات التي نشأت في عصور الجماعات المنفصلة أو محدودة التواصل استعملت غالبا آلية التخويف من الغريب للحفاظ على التماسك الداخلي. عندما يحمل الناس اليوم هذه المنظومات معهم في عالم يجعلهم في وجه الأغراب وبشكل يومي ومباشر فإن التوتر والارتباك وربما العنف هو المتوقع، هذا ما نشاهده تحديدا مع نجوم هذا الفيلم. هذا الاجتماع القسري يحتاج منظومة أخلاق جديدة. هذا المنظومة كما يناقش فلاسفة التواصل الإنساني لا يحتاج عناصر غريبة عن الإنسان بقدر ما يتطلب العودة للإنسان وتجاوز الحدود التي خلقتها المنظومات الأخلاقية التي أنتجت في عصور الانقطاع. هذا ما نجده في الفيلم أيضا، حيث في داخل كل إنسان قدرة على فهم الإنسان الآخر وقدرة على استيعاب مشاعره وأحاسيسه بشرط أن يتاح له المجال بالتواصل بدون تسلّط من طرف على الآخر. هذا الشرط هو ما يحاول الإرهاب بشتى صوره ومعانيه القضاء عليه.