إذا ما حاولنا استقراء الحاضر فلا فكاك من أن نرجع إلى الوراء، وكلما رجعنا إلى الوراء وجدنا هناك واقعا آخر يكمن وراءه؛ حتى نصل إلى عمق الجذور في حلقات متتالية لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها، لأن تلك هي الحتمية التاريخية للتكوين البشري. وبما أن جنوب غرب آسيا هو مركز الحضارات ومنبعها كما يقول رالف دانتون في كتابه شجرة الحضارة: "أن كل الاختراعات التي غيرت مجرى الحضارة في العالم قد نشأت في بلاد العالم القديم وأنه يمكن تتبعها إلى هذه المنطقة، وأن ذلك قد تم ما بين 3500-5000 ق.م"؛ وبهذا كانت هذه المنطقة في العصر النيوليتي مركزا لجميع الحضارات القديمة. ومن خصائص ازدهار الحضارة في أي بقعة من بقاع الأرض حرية التعبير.

فالإنسان قد فطره الله سبحانه وتعالى على حرية التفكير، وبالتالي حتما أنه فطر على حرية التعبير لكونه من يمتلك "الحكمة".

وحين بدأ أرسطو كتابه السياسة، كان مهتما بطبيعة الحال ومشغولا بالعلاقات الداخلية التي تهيئ للمدينة فرصة الوجود، ولم يكن مشغولاً على الإطلاق بالمدينة في مظهرها الخارجي كدولة ذات سيادة، لأنه يرى أن الإنسان وحده دون سائر المخلوقات من يمتلك المنطق "logos". واللوجوس يعني شكلا أكبر من القدرة على الكلام بل يدل على العقل والتفكير والأخلاق "الحكمة" ومن هنا كان الفرد لديه هو المدينة.

ولقد تعاطينا مصطلح الديموقراطية بأنه رأي الفرد حينما يذوب في رأي الجماعة. وحينما يغلِّب الفرد مصلحة الجماعة على مصلحته الشخصية في تناغم جماعي تتفق عليه الأغلبية بالإجماع. فتكون وحدة المجتمع في مصلحة الرأي العالم وبالتالي المجتمع برمته. وقد اعتمدنا دائما في دراساتنا وفي أبحاثنا أن منبع الديموقراطية نشأ في أثينا على أيدي فلاسفة عظام وأولهم سقراط، ولا يتسع المجال للتوسع في تتبع وتطور مفهوم الديموقراطية، وإنما على أي حال هي كما أوجزناه سالفا، ولكن السؤال الملِح هو بما أن هذه المنطقة وهي بلادنا منبع الحضارات التي لا تقوم إلا على الديموقراطية فهل كانت تمارس الديموقراطية بالفعل في عصورها العميقة؟ والذي يزيد من إلحاح هذا التساؤل أننا قد سبقنا عصر سقراط بحسب ما يسوقه تاريخ منطقتنا. فالعصر النيوليتي هو ما بين 5000و3500ق.م بينما كان سقراط في حوالي 399- 469. ق.م. ولهذا وجب علينا أن نمعن التفكير فيمن سبق في تطبيق مفهوم الديموقراطية ومن هم مخترعوها؟

يقول رالف لنتون في دراسته التي أجراها في مؤسسة فرانكلين في نيويورك متحدثا عن العصر النيوليتي 5000عام ق. م. في منطقتنا "جنوب غرب آسيا": "إن القرى كانت تسكنها مجموعات صغيرة تعيش في مجمع واحد فإن السلطة الحقيقية كان يمارسها زعماء العائلات"، ولكنهم لا ينفردون بسلطة الرأي فهو يقول: "كان الرجال يحبون الاجتماع في مكان يرتاحون إليه في القرية، وغالبا ما كان الجرن الذي يدرِسون فيه الحبوب، وهناك يناقشون أمورهم المهمة عندما تقل حرارة الجو في السماء. وكان لكل عضو في القرية الحق في أن يقول ما يؤمن به في أي أمر من الأمور، وكانوا يستمعون باحترام إلى الرجال ذوي المكانة. وكانوا يوافقون بالإجماع على القرارات التي يصل إليها المجتمعون. ولم يكن هناك من يحب أن يجد لنفسه الشخص الوحيد الذي يدافع عن رأي لا يشاطره فيه أحد؛ فكان لكل قرية في العصر النيوليتي مجموعة من العادات التي تحدد علاقات الأشخاص فتصبح قانوناً".

أما في أثينا وفي هذه الحقبة الزمنية نفسها وما قبلها فقد كانت كما وصفها آي. اف. ستون: "بأن السياسة في أثينا وفي دول المدن الإغريقية عامة هي صراع طبقي بين حزبين، وقد اتفق الطرفان على أن يجري الحكم بواسطة المواطنين، لكنهم اختلفوا على حجم المواطنة وسعتها، هل يقيد بحق المواطنة كما في النظم الأولجاركية "حكم الأقلية" أم يجب توسيع هذا الحق كما في النظم الديموقراطية، هل يقوم حكم المدينة على الأقلية أم على الأغلبية؟ وهل كان يعني الأغنياء أم الفقراء؟ لكن بالنسبة للطرفين فإن السياسة - وهي قوام حياة المدينة - تقوم على الحكم الذاتي، ومعارضة الحكم الذاتي كانت تعني، ليس فقط العداء للديموقراطية بل معاداة السياسة ذاتها" وبناء على ذلك تم إعدام سقراط حيث قُدّمَ للمحاكمة وُوجهت إليه تهمة إفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية. وكان سقراط يُلمحُ إلى أن الحكام يجب أن يكونوا من أولئك الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم. وقد قضت هيئة المحلَّفين بثبوت التهمة على سقراط وأصدرت حكمها عليه بالإعدام؛ فيقول ستون: "هذه هي الملامح الأساسية للسياسة الإغريقية - أي إدارة المدينة - في الزمن الماضي قبل أن يأتي أرسطو ويقوم بتوصيفها في القرن الرابع ق.م. وكانت هذه الأمور تحكم حياة أثينا أثناء حياة سقراط، وعلى هذه الأسس والمبادئ اختلف سقراط وتلاميذه". لأن هذه هي الطريقة إلى ظهر بها أمام معظم معاصريه!

وبهذا نستطيع لمس التفكير البشري عبر التاريخ الإنساني ونتتبع خيط جذره، إلا أننا وجدنا أن مفهوم الديموقراطية كان قد نبت وترعرع في طينتنا نحن منذ العصر النيوليتي، وأن سقراط قد أعدم لأنه كان ديموقراطياً.

فحرية التعبير حق فطري ومكتسب وهي ليست بمعناها العام الذي يكتنفه الغموض، ويتطابق أحيانا مع حرية القوي في استغلال الضعيف، بل حرية التفكير وحرية التعبير، تستمد جذورها من اعتقاد يؤكد أنه ليس هناك مجتمع خيِّر مهما كانت مقاصده، ومهما كانت مزاعمه الطوباوية والمثالية، إذا لم يكن رجاله ونساؤه قادرين على التعبير عما يدور داخل عقولهم.