تعد البيعة بمعنى "المبايعة والطاعة" من أهم مميزات النظام السياسي الإسلامي، بل أستطيع أن أؤكد أن كل الحضارات السابقة لم تعرف نظام البيعة على الإطلاق، وأنها أمر تفردت به الحضارة الإسلامية عن مثيلاتها من الحضارات الإنسانية؛ فمنذ فجر الحضارة الإسلامية كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وبيعة الرضوان، وهي مبايعات تمت لسيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الرجال والنساء ـ الإمام ابن الجوزي أحصى 457 امرأة بايعنه صلوات الله وسلامه عليه ـ ، والأطفال كسيدنا عبدالله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ ، ووثق ذلك كله القرآن الكريم في سورة الفتح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ في نفس السورة المباركة: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.

الكتب المؤلفة في مسائل الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك، مما يتعلق بتقليدات الملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين وغيرهم ككتاب (الأحكام السلطانية) الذي ألفه القاضي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي المتوفى عام 450هـ، ـ المتوفى بفتح الفاء المشددة مع القصر هو الشخص الذي وقعت عليه الوفاة، والمتوفي بكسر الفاء الممدودة المشددة هو من يتوفى الأنفس ويميتها وهو الله سبحانه ـ ، وكتاب (الأحكام السلطانية) الذي ألفه القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء الحنبلي المتوفى عام 458هـ ـ لا أحد يستطيع الجزم بالسبق لأي من الكتابين، مع أن البعض رجح أن الإمام الماوردي هو الأسبق بالتأليف ـ .. الكتابان أوضحا أن البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ وأنها من تضفي الشرعية على نظام الحكم، وأنها ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأنها أداة إعلانه التزام المجتمع بالمنهج والشريعة والشورى، وأنها عهد على الطاعة من الرعية لراعيها، وإنفاذ مهماته على الوجه الكامل، وأهم ذلك سياسية الدين والدنيا.

اليوم تحتفي البلاد بأسرها بتجديد البيعة لقائدها خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ـ حفظه الله ورعاه ـ، وتحتفل بمناسبة الذكرى الثامنة لتولي خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ورعاه ـ مقاليد الحكم في هذه البلاد المباركة.. الذكرى عزيزة وغالية على الجميع، والمتابع بإنصاف لما حققته المملكة في عهده ـ أيده الله ـ من نهضة تنموية وتقدم حضاري يجد هذه المناسبة فرصة لتقديم المباركة لقائد هذه المسيرة الطيبة، مع الشكر الجزيل له على ما بذله ويبذله من جهود في سبيل رقي وتقدم الوطن.. لن أعدد ما قدمه مليكنا المفدى لبلده ووطنه وأمته فهذا مبسوط في صفحات حوالي 2500 يوم مما مضى من أيام جميلة توالت فيها بفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإنجازات والمكتسبات التي شملت كل ركن من أركان المملكة وكل فرد من أفرادها، وتجسدت خلالها ملامح التلاحم والتفاهم بين الشعب وقائده الذي لم يقصر معه أبداً، وبقي علينا الدعاء له بطول العمر والعافية وحسن العمل، وتحقيق ما يتطلع إليه قائد هذه البلاد المباركة، من تطبيق تام لما يكفل حماية النزاهة، ويكافح الفساد ومظاهره كالرشوة والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة استعمال السلطة، والإثراء غير المشروع، والتلاعب بالمال العام واختلاسه أو تبديده أو إساءة استعماله، وغسيل الأموال، والجرائم المحاسبية، والتزوير، وتزييف العملة، والغش التجاري وغيرها؛ يقول تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}، و{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً}، و{وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يسترعي الله عبدًا على رعية يموت حين يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة"، و"لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما".. عاش المليك، وعاش العلم، وعاش كل الوطن.