كما يظهر للمتابع، فتقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات متناحرة هو الحلم الذي تسعى إليه الصهيونية وحلفاؤها الذين لم يتورعوا عن إظهار ولائهم لها ولتطلعاتها، ولذا لم يكن غريبا أن نجد دراسات تتم هنا وهناك في محاولة فرض هيمنتها على المنطقة من خلال تقديمها لتوصيات متعددة لأميركا. فهي كدولة عظمى - من وجهة نظر الكثيرين - قادرة على إحداث فوضى في دول المنطقة، وعلى تحفيز الأقليات لنشر القلاقل بغية تقسيم أوطانهم إلى دويلات صغيرة متناحرة فيما بينها، ولن تكون بطبيعة الحال قادرة على حماية نفسها ومقدراتها دون السعي وراء وصاية دولية تكون أميركا وحلفاؤها على رأسها.

ولذا لم أستنكر وأنا أتابع دراسات تتحدث عن ضرورة تشتيت جمعنا وتفتيت مقدراتنا في الشرق الأوسط، فهي تطالب أميركا بشكل مباشر وغير مباشر بدعم أي مطالبات للانقسام في عالمنا العربي، من خلال مساندتها لأي حراك يهدف إلى تقسيم الشرق الأوسط تقسيما عشوائيا، كما عمدت الكثير من تلك الدراسات إلى وضع تفسيرات لاحتياجات مواطني الشرق الأوسط وقفا على المصلحة الحالية والآنية للكيان الصهيوني وحلفائه.

فقد ظهر مما كتب بعض هؤلاء أن اهتمامهم لا يصب في مصلحة الشرق الأوسط وأهله، فهذه الدراسات في مجملها رسمت خرائط مقترحة لدول شرق أوسطية تقسم دولا عربية مستقرة وغنية ونامية بشكل لافت، فما يهم هؤلاء هو السيطرة على مقدرات تلك الدولة الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية، دول ذات موقع جغرافي هام من ناحية سياسية واقتصادية ودينية أيضا، ومن جانب آخر هي تدرك تماما أن الانتصار سيكون أسهل لو كان الصراع قائما في مواجهة الدول الصغرى مشتتة الإمكانيات، عن مواجهة الدول القوية البنية، الصلبة في حدودها ومواردها وسكانها.

وفي مقال كتبه "ألوف بن" رئيس تحرير جريدة هآرتس والمعنون بـ "الشرق الأوسط في مرحلة الإعمار" نشر عام 2011 قال: (سياسة إسرائيل الخارجية حتى قبل قيام الدولة، كانت دائما قائمة على منافستها للعرب والمسلمين في الجوار.. وكلما زاد عدد الدول في المنطقة كلما سهل على إسرائيل المناورة بينها) ثم عرج إلى التاريخ فعرض ما ورد في الكتاب الذي وصفه بالرائع "سلام ينهي كل سلام" للكاتب الأميركي "ديفد فرومكن" مشيرا إلى أنه تحدث عن الكيفية التي استطاعت القوة العظمى من خلالها رسم خريطة الشرق الأوسط في فترة الحرب العالمية وما بعدها، بقوله: (إن النزعة المعادية للسامية التي يحملها الشعب اليهودي نجحت بطريقة أو بأخرى بالتأثير على هذه القوى وحرضتها بالتالي على حياكة المؤامرات) إذاً.. نظرية المؤامرة التي يتداولها بعضنا ليست محض اختلاق، فالمؤامرات تحاك في العلن وفي السر، والخطط تعد وتوجه، والتبسم في وجوهنا قد يكون ابتسامة الليث المستعد للانقضاض، والثقة العمياء بساسة أدركنا من التاريخ القديم والحديث أن مصالحهم فوق المثل، وأن نقض المعاهدات أمر لا ضرر فيه ما دامت تحقق مصلحتهم.

ولكن سعادة الكاتب الصهيوني الظاهرة وهو يذكر ما نقل عن دبلوماسي بريطاني عقب اعتماد اتفاقية "سايكس بيكو" أثارت حفيظتي، فقد قال إن ذاك الدبلوماسي الذي كان يمثل آنذاك الدولة العظمى التي لا تغيب عنها الشمس قال: (القوة هي أفضل وسيلة للتعامل مع العرب) وليعاود "ألف بن" مرة أخرى ليوضح عبارة لا لبس فيها قائلا: (وباللغة المتداولة في الخطاب الإسرائيلي اليوم، الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب هو القوة) ولهذا ولغيره أقول.. عندما تريدون دراسة وتحليل شعب عريق كشعبنا، وعالم قديم كعالمنا، عليكم ترك النظر في المرآة، والعمل على تدبر قدم ذاك العملاق الذي بالكاد تستوعبون أصابع قدمه.

وقد ذكر هذا الكاتب الصهيوني في مقاله ذاك أن (الغرب يفضل على غرار "إسرائيل" شرق أوسط متشرذما ومتصارعا، لذا تحارب هذه القوى على عدة جهات ضد نزعات العروبة والإسلامية.. ولهذا يمكننا التقدير أن الغرب لن يحاول أن يقف حجر عثرة في طريق عمليات التقسيم القائمة في دول المنطقة، بل سيساهم في ذلك) إن الكاتب أراد تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات حتى يسهل ابتلاعها والسيطرة عليها وعلى مقدراتها وتوجيه سياساتها الاقتصادية وحتى الأمنية بحسب مصالح كيانه الصهيوني، فهذا الكيان الذي لا يملك حدودا معترف بها دوليا، وهو لا يسعى إلى ذلك، بل يرفض الحديث على قضية محورية مثل تلك، يتطلع إلى حدود شاسعة تمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبا، يتطلع إلى إسرائيل الكبرى، يؤكد أن مصلحته تتحقق بتمزيق جسدنا وتشتيت شملنا، فقد ختم مقاله بقوله: (سياسة "إسرائيل" الذكية والتي تنجح في تحديد الفرص الكامنة لانبثاق دول جديدة، تدرك كيف تستغل هذه الفرص، ستكون قادرة على احتواء هذه العملية من أجل إعادة فرض قوتها ونفوذها على المنطقة بأسرها)!

إن سياسة إسرائيل الغبية.. غير قادرة على كسب ثقة الشعوب العربية والإسلامية بطبيعة الحال، وها هي إلى اليوم تجد الإنسان العربي البسيط يرفض وجودها على أرضه ويرفض التعامل معها، ولو كانت بلاده قد وقعت معها معاهدة سلام، عليها أن تعيد التفكير مجددا في سياستها، فهي الحلقة الضعيفة منذ أن احتلت أرضنا وقتلت شعبنا، وأحلامها بالسيطرة على المنطقة من خلال تطبيق سياسة "فرق تسد" محال تحقيقها، وعليها لتعيش بسلام أن تمد يدها وتقبل بصمت.. ما نعرضه عليها.