لكل مجال قائد يحرك التيارات ويؤسس المدارس الفكرية. طبيعة البشر تحب أن يوجد من تتطلع إليه، أن توجد قدوة تشعر الإنسان بالأمان، وبأن هناك من يتحكم بزمام الأمور بفعالية. قائد يشعر من يعمل معه بأن له كرامة وأن حقوقه محفوظة، لأن هذا القائد يخاف على حقوق من يعمل معه أكثر من الفرد على نفسه. توجد العديد من الأسماء التي تنطبق عليها هذه الصفات في الكثير من المجالات مثل إدارة الأعمال والتصميم والهندسة، حيث توجد قائمة من المتميزين بفكرهم وأصالة أعمالهم التي تشتهر بمخرجاتها التي تعد إضافات جوهرية نجحت بشكل غير مسبوق على المستوى المحلي والعالمي أيضا في بعض الأحيان.

لكن في مجال التعليم، ومع فائق الاحترام لكل من يعمل به، ما زلنا نفتقد مثل هذه الشخصيات التي تتميز بفكرها المجدد وأعمالها التي تترجم هذا الفكر على أرض الواقع بنجاح. يشتكي التعليم من غياب دور القيادة الفاعلة في تحريك الرأي العام نحو الإيجابية للتغيير، فلا يوجد قائد ذو كاريزما وتأثير يستطيع القيام ببث روح الأمل والتجديد ويتطلع العاملون في المجال لقراءة آخر كتاباته للتطوير وتتبع آخر إنجازاته. فعلى سبيل المثال، عندما نجح جيفري كاندا في رفع المستوى التعليمي في منطقة هارلم في نيويورك، وبالرغم من أنها من أخطر الأحياء الأميركية وترتفع فيها معدلات الفقر والجريمة، فسر الكثيرون هذا النجاح بسبب قدرته على تولي مهمة القيادة بنجاح وبسبب مصداقيته العالية كمتخصص في شؤون التعليم. فحصوله على الماجستير من جامعة هارفرد والدكتوراه الفخرية من قبل العديد من الجامعات والجوائز المتعددة لجهوده في إصلاح التعليم، بالإضافة إلى شخصيته القيادية المؤثرة جعلا منه نموذجا فعالا قادرا على جذب الاهتمام حوله والرفع من مستوى الإيجابية والإنتاج في محيط عمله.

توجد العديد من الأسباب التنظيمية التي من شأنها عرقلة مسيرة كل من لديه المؤهلات اللازمة لأن يصبح قائدا تعليميا. فأولا، نعاني وبشكل ملحوظ من مستوى المركزية الخانق الذي يغتال الإبداع وينقله مباشرة من المهد إلى اللحد بدون أن يرى النور ولو للحظة. العمل في بيئة لا تحفز الاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرارات التي تمس العمل مباشرة يشكل قوى عاملة خانعة ومتلقية للأوامر فقط وتؤثر سلبا على خلق الشخصيات القيادية. للأسف، تسود التعليم ثقافة "باب سد الذرائع"، فلو خطرت للمعلم فكرة تغيير بعض محتويات المنهج ليناسب مستوى واهتمامات طلابه بشكل أفضل، فسيواجه غالبا بالرفض. ولو أرادت أي من المدارس تطبيق فلسفة وتوجه جديد في تعليم طلابها، فأيضا ستواجه بالرفض في أغلب الأحيان. كل ذلك بحجة الحفاظ على الجودة وتوحيد جميع الإجراءات المعتمدة بدون أي تغيير قادم من الأسفل، أي من قبل من يعمل مباشرة مع الطلاب.

التجديد في الدور الذي تلعبه منظومة التعليم يجب أن يشتمل على التوجه نحو الرفع من مستوى اللامركزية وإعطاء الفرصة للمدارس حتى تتخذ قراراتها بنفسها بشكل مستقل. في كتاب "لماذا تفشل الأمم؟"، يتحدث روبنسون وإيسموغلو بأن نجاح الدول الاقتصادي مرتبط بشكل كبير بإفساح المجال للمجموعات المستقلة والمنظمات الصغيرة لأن تمارس دورها في الإصلاح، وأن الفشل حليف الأمم التي تتمركز فيها القوة والمال في أيدي الأقلية بينما تحرم الأغلبية من ذلك. يرتبط النجاح الاقتصادي، كما شرح المؤلفان، بالاستثمار في كل مواطن ليبدع ويطور من ذاته لأقصى حد من خلال مؤسسات المجتمع التي تشجع الفرد على ذلك. تدلنا هذه النقطة على أن المركزية المتبعة في مؤسسات التعليم لدينا لن تقودنا فقط لحلقة مفرغة من محاولات الإصلاح الذي لن يتحقق إلا بشكل سطحي، بل إنها تغتال الشخصيات القيادية وتشكلها لتصبح سلبية ومتلقية فقط للأوامر العليا. هذا بالإضافة إلى التكلفة الاقتصادية طويلة المدى لاعتماد نظام غير محفز لظهور القيادات.

من الأسباب الأخرى التي منعتنا من الاستمتاع بوجود القيادة في التعليم هو عدم وجود أي مركز متخصص بالدراسات العليا في مجال القيادة التعليمية لدينا في المنطقة بشكل عام. قد يستغرب البعض من وجود هذا المصطلح الذي يبدو غريبا على الأذن العربية، لكنه يعتبر من الممارسات الاعتيادية والمتوقعة من أي شخص يريد إحداث التغيير الإيجابي في مدرسته أو مؤسسته التعليمية. تركز هذه البرامج على مخاطبة وتحفيز القائد الموجود بداخل كل من يعمل في التعليم، فالمعلم يمارس القيادة، وكذلك الإداري والمشرف التربوي ومدير المدرسة والباحث والأكاديمي، كل على مستويات مختلفة من التأثير على حياة الطلبة. يجب أن تلعب برامج إعداد المعلمين والإدارة التربوية دورا هاما في تدريب منسوبيها على القيادة وأساسيات إدارة الأعمال الحديثة. فلا يشعر رجل الأعمال الذي يريد الاستثمار في مجال التعليم بوجود فجوة في اللغة وطريقة التفكير المعتمدة في مجاله مع غالبية العاملين في مجال التعليم.

توجد العديد من المفاهيم المغلوطة عند الحديث عن القيادة، فالقائد ليس المدير الذي يتقلد أعلى المناصب ومن يملك الصلاحيات لفرض أوامره، وهو بالتأكيد ليس من يعمل من منطلق "تكسير المجاديف" لتحقيق السيادة والاحترام. هو شخص استحق التقدير بسبب أعماله المشرفة، وهو من يتطلع الناس للاستماع لكلامه والعمل معه لأن ثقته بنفسه وبخبرته انعكست في أعماله وتعاملاته مع من حوله. لا توجد مؤسسة يمكن أن تنجح وتتطور بدون قائد، فكيف بوزارة تعد أكبر جهة عمل في الدولة؟ حان الوقت لاستقطاب القادة في هذا المجال وليس مجرد عاملين في انتظار الترقية للصعود في السلم الإداري.